أن يصف رئيسٌ رئيساً آخر بأنه “ابن كلبة” ويرد عليه طاقم الرئيس الآخر بشد العضلات النووية ونعته بالخرف، بل بشخصنة الشتائم لتطال ابن الرئيس – وبالتالي أمه – فإن الأمر لا يسلّي بل يفتح آفاقاً أخرى للأرق والقلق. الرئيس الأميركي جو بايدن، لدى وصفه نظيره الروسي فلاديمير بوتين بالمجنون وبالعبارة النابية إنما كان يعبّر عن امتعاضه من أفعال بوتين بمعارضيه في ضوء وفاة المعارض الشهير ألكسي نافالني في السجن وعدم السماح لوالدته بتسلّم جثته، كما عن الغضب من مكاسبه الميدانية في حربه على أوكرانيا.
ولعل الرئيس بايدن قرأ سطور السخرية والاستهزاء به في تصريحات الرئيس بوتين بأن روسيا تفضّل بايدن على الرئيس السابق دونالد ترامب، فوصفه بالشتيمة. لكن الولايات المتحدة لا تكتفي بالأوصاف بل لديها أدوات كانت في الإعداد قبل التلاسن وهي حزمة العقوبات الضخمة على روسيا. وروسيا بدورها كانت تعدّ تحليقاً برسائل نووية قبل الشتيمة، إنما بتزامن معها كما حدث، وذلك لتذكير الغرب بالقدرات السوفياتية النووية في الفضاء وإحياء بوتين لها شخصياً على متن حاملة القنابل النووية واسمها “البجعة البيضاء”.
فلاديمير بوتين يريد إنعاش العظمة السوفياتية أمام الشعب الروسي كي يحطّم أي انطباع بضعف روسيا نتيجة الحرب الأوكرانية. إنه واثق بفوزه بالانتخابات الرئاسية المزمع عقدها 15-17 آذار (مارس) لكنه يريد المقاربة بين الانتخابات الروسية الحاسمة لمصلحته كما يراها، والانتخابات الأميركية المتخبطة بين المحاكم وتهم الفساد والخرف، يريد التدخل بها بصورة غير مباشرة، بل مباشرة بحلّةٍ غير اعتيادية لا تتوقف عند المقاربة.
هناك أبعاد للسياسات الخارجية لكل من الولايات المتحدة وروسيا ترافق الانتخابات الرئاسية الأميركية والروسية تمتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى البحر الأحمر. قبل الخوض في هذا الجانب من الموضوع، دعونا نعود إلى قصة الشتائم والتلاسن، وإلى الإجراءات الثنائية الأميركية نحو روسيا، وإلى الانتخابات الرئاسية.
ليس صحيحاً أن فلاديمير بوتين يفضّل فوز جو بايدن بالرئاسة لولاية ثانية والأسباب عديدة، أبرزها أن بايدن هو عرّاب إنشاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتماسك صفوفه في دعم أوكرانيا كما في تحقيق الأهداف الأساسية له وهي: توسيع عضوية الناتو لتشمل أوكرانيا لاحقاً. في عهد بايدن، ونتيجة الحرب الأوكرانية، انضمت فنلندا والسويد إلى الحلف فطوّقتا روسيا أكثر وأكثر، وهناك تعهّد بانضمام أوكرانيا إلى الحلف في مرحلة لاحقة.
في عهد بايدن انزلقت روسيا في مرتبتها الدولية بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية، كما بسبب انزعاج دول صديقة تقليدياً لروسيا من حربها على أوكرانيا. حتى الصين لم تهرول إلى دعم روسيا في حربها الأوكرانية. تركيا أيضاً استفادت من مكانتها داخل حلف الناتو، فتكبّر رئيسها رجب طيب أردوغان على الرئيس الروسي وقلب مقاييس العلاقة الثنائية بين الرجلين، وبين الدولتين ومعاييرها.
بالمقارنة، دونالد ترامب يتعهد إنهاء الحرب الأوكرانية، ليس عبر الحسم العسكري لمصلحة أوكرانيا، بل عبر صفقة يقدمها إلى فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب ومكافأته على ذلك بتعهدٍ قاطع بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف الناتو لأن ترامب سيضمن ذلك.
أساساً، دونالد ترامب يختلف جذرياً عن جو بايدن في مسألة حلف شمال الأطلسي والعلاقات الأميركية – الأوروبية. هذا تغيير جذري يريده بوتين، ويريده كثيراً، وبالتالي إن تصريحاته المضلِّلة بأن روسيا تفضل بايدن على ترامب في الرئاسة إنما هي استعراضية في السخرية وفي اللعب بأعصاب بايدن. وبايدن يعرف ذلك. فهو وحزبه يكنان الكراهية لبوتين لأسباب قديمة تدخل في خانة اتهامه بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أطاحت هيلاري كلينتون وأتت بدونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لكن كل هذا لا يعني أن روسيا متشوقة لرئاسة ترامب لأنها تخشى اعتباطيته.
استعراضية بوتين لم تتوقف عند التهكّم على بايدن قبل أن يرد الآخر بنعته بأنه “ابن كلب مجنون”. فلقد أخذ بوتين إلى التحليق بنفسه على متن قاذفة القنابل الاستراتيجية – السوفياتية أساساً وثم تطويرها – ليذكّر الغرب بأنها قابلة للاستخدام في حال اندلاع حرب نووية معه.
الولايات المتحدة بدورها حذّرت مباشرة من إطلاق سلاح نووي إلى الفضاء، مضاد للأقمار الاصطناعية، باعتباره تصعيداً خطيراً في المواجهة بين قوى الحرب الباردة وينتهك معاهدة 1967 التي تحظّر نشر أسلحة نووية في الفضاء. موسكو نفت نيتها تصنيع السلاح وإطلاقه إلى الفضاء واتهمت واشنطن بـ”التلفيق الخبيث” من أجل إقناع الكونغرس بالموافقة على المساعدات العسكرية لأوكرانيا. هذا فيما سعت الدبلوماسية الأميركية إلى حشد الإدانة الدولية ضد روسيا مناشدة، ليس فقط دول مجموعة السبع الصناعية، بل أيضاً الصين والهند لتوبيخ موسكو على مخاطرتها بسباق تسلح نووي في الفضاء سعياً وراء “التوافق الاستراتيجي”.
وأعلنت الخزانة الأميركية الخميس الماضي فرض الولايات المتحدة عقوبات على أكثر من 500 من أهداف وأفراد بالتزامن مع الذكرى الثانية للحرب الروسية- الأوكرانية هي أضخم حزمة عقوبات أميركية من نوعها على موسكو. هذه العقوبات التي يتم اتخاذ بعضها بالشراكة مع دول أخرى تستهدف المجمع الصناعي العسكري الروسي، وكذلك شركات في دول ثالثة تساعد في تسهيل وصول روسيا إلى السلع التي تريدها. وهذا أمر يطوّق روسيا اقتصادياً لخنقها عبر أكثر من بوابة، بما فيها البوابة التركية.
العقوبات الخانقة التي تشارك بريطانيا في بعضها تستهدف شركات الإلكترونيات وتجار نفط وماس وليس فقط شركات ذخيرة، وذلك لحرمان بوتين من “الموارد التي يحتاجها بشدة لتمويل حربه المتعثرة” كما قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، بهدف “تقليص” ترسانة أسلحته. كما أعلنت لندن أنها تحضر إجراءات أخرى ضد موسكو من أجل محاربة “الأسطول الشبح” من سفن النفط ذات الملكية الغامضة للتحايل على العقوبات. ثم هناك عقوبات أوروبية مؤذية أيضاً.
مسألة العقوبات ليست استعراضية ولا هي قابلة للسخرية لأنها تؤذي روسيا وبوتين وتسعى إلى عزله دولياً. لكن العزل اليوم لا يطال روسيا فقط بل أيضاً الولايات المتحدة الأميركية، ليس بسبب حرب أوكرانيا، بل بسبب المواقف الأميركية من حرب غزة.
فخلال اجتماعٍ لدول مجموعة العشرين في البرازيل حضره وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، انعزلت الولايات المتحدة وانهمرت الانتقادات عليها بسبب سياستها في حماية إسرائيل من المحاسبة ومنعها مجلس الأمن للمرة الثالثة من تبنّي قرار يدعو إلى وقف النار باستخدامها حق “الفيتو”. بسبب خطأ تقني، تمكنت مجموعة من الصحافيين من الاستماع إلى جلسة مغلقة تحدّث الوزراء فيها بصراحة وبانتقاد لاذع من حلفاءٍ مقرّبين مثل أوستراليا. هذا الى جانب وضوح مواقف كل من البرازيل وجنوب أفريقيا في الاجتماع وكذلك وضوح مواقف دول أخرى مستاءة من الحماية الأميركية لإسرائيل وغاضبة جداً من الإجراءات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، من أبرزها اسبانيا وإيرلندا والأرجنتين.
بلينكن عالج الانتقادات بليونة بلا مواجهة ولا تصعيد واكتفى بالقول: “قد يكون هناك اختلاف حول التكتيك… لكننا نحاول التركيز على النتائج”. وبالفعل، ثابر فريق بايدن الذي يشمل بلينكن وبريت ماكغورك المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض، وكذلك رئيس الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، على السعي وراء صيغة للخروج من مأزق غزة.
هذه “الصيغة المرنة” التي يعمل عليها الفريق الأميركي لمعالجة مسألة حل الدولتين المرفوضة إسرائيلياً بتعريفها التقليدي، أي بقيام دولة فلسطين الى جانب دولة إسرائيل، هي صيغة يسعى فريق بايدن الى إقناع إسرائيل بها والى إقناع الدول العربية بالقبول بموافقة إسرائيل عليها. فالهدف هو إبقاء فكرة حل الدولتين على الأجندة فيما تهدأ الأمور ويتم البحث لاحقاً في كيفية تفعيل فكرة حل الدولتين. بكلام آخر، يتم تعليق التعريف الواضح لمفهوم حل الدولتين، بل تغليفه بغموض المرونة وبصياغات بنّاءة، وذلك تجنباً للانزلاق أكثر الى المأزق والطريق المسدود.
موضوع غزة لا يهم روسيا كثيراً، فهي منغمسة في أولوياتها الأوكرانية والأوروبية والأميركية. ما يهم روسيا هو الضمانات التي تلقتها من إيران ومن الحوثيين بأن العمليات في البحر الأحمر لن تطال السفن أو المصالح الروسية ولا الصينية. الكرملين لا يهمه أن يتعرّض أمن الملاحة الدولية طالما هي الملاحة الغربية- بل يتمنى ازديادها.
الرئيس بوتين سيوضح في خطابه في 29 من الشهر الجاري حول وضع البلاد ان الغرب اليوم بات “عدواً”- وليس فقط لم يعد صديقاً لروسيا. ذلك هو مستوى الجدّية في تدهور العلاقات، بل ان كل العلاقات الرسمية بين الولايات المتحدة وروسيا انقطعت، ولا يبدو في الأفق القريب أي مجال لاستعادتها. الخوف ان التوتر سينمو ويزداد حدة وقد يصل الى درجة المواجهة الخطيرة. فالمسألة ليست مجرد “فشة خلق” عابرة بتعابير نابية ولا هي مجرد لعب على الأعصاب لقادة دول نووية. ففي انقطاع التواصل بين الدولتين تكمن الخطورة.
التخبط الدولي واضح في ملفات عديدة، أبرزها للأوروبيين أوكرانيا وإسرائيل- غزة. البحث الجاري لا يصبّ في معالجة جذرية للنزاعات كالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وإنما يكتفي بحدود “إدارة الأزمة”، وبالعمل نحو “الاستقرار الدائم” وليس نحو تحقيق “التسوية السلمية”، أو السلام مع ضمانات قاطعة للأمن الإسرائيلي. روسيا خارج جهود البحث الأميركي عن “ميكانيزم” أو آلية جديدة تقوم على وقف التصعيد، والتوصل الى حل ديبلوماسي ينطوي على ضمانات غامضة.
المهم لواشنطن هو المحور الجديد الذي يضمها مع دول عربية فاعلة مثل السعودية ومصر وكذلك قطر التي لها علاقات مميزة مع “حماس”رغم أنها، كما تقول المصادر، لا تمون اليوم على يحيى السنوار، القائد العسكري لـ”حماس” الذي أطلق عمليات 7 تشرين الاول (أكتوبر)، والذي بات مصير غزة مرتبط بمصيره الشخصي، حيّاً أو ميتاً، داخل غزة أو خارجها.
أحد المطلعين على الأطروحات الأميركية قال ان فريق بايدن يريد الضغط على “الحاءات” الثلاثة: “حزب الله”، “حماس”، و”الحوثي”، وهو يسعى وراء ذلك عبر إيران لإقناعها بإقناع الحاءات الثلاث بالتراجع عن التصعيد، وبأن تكون هي في القنوات الخلفية لإدارة الأزمات وللتوصل الى حل مبدأي يرضي الجميع.
لهذه الأسباب، تقول مصادر دبلوماسية خليجية عربية اشترطت عدم ذكر اسمها، إن لا قلق من توسّع الحرب إلى لبنان لأن إيران على متن الجهود الأميركية، ولا خوف من “حزب الله” في لبنان ولا من إسرائيل على حدوده الجنوبية لأن كليهما في حال ضعف واستنزاف. ما يكبّلهما هو التوافق الأميركي – الإيراني على عدم توسيع رقعة الحرب، والتوافق الأميركي – العربي في المحور الجديد على دعم خيار الضمانات الأمنية في تعايش وتطبيع وشراكات اقتصادية، بدلاً من خيار الانفجار، والحروب الاقليمية، واشتعال البحر الأحمر، وعودة الإرهاب إلى الساحة العالمية كأداة انتقامية.
أين روسيا من كل هذا؟ لننتظر ونر. فلاديمير بوتين في مزاج السخرية والهروب إلى الأمام من تداعيات العقوبات. جو بايدن في مزاج الغضب العارم ليس فقط من نظيره الروسي بل أيضاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. الفارق أنه يستخدم أدواته مع روسيا لكنه مقيّد المعصمين أمام إسرائيل، الابن المدلل للولايات المتحدة الأميركية.