أمريكا

لماذا احتمالات فوز هاريس أصعب من فرص ترمب؟

هاريس تواجه تحدياً مرتبطاً بانتمائها الديني؛ فلأنها تنتمي إلى عائلة متعددة الأديان، فهذا يضعف بشكل كبير من فرص فوزها بالرئاسة عند الجماهير المسيحية المحافظة والمنظمة بشكل فعال داخل مؤسسات المجتمع المدني الواسعة بأميركا

تُعدّ السياسة، مثل القانون، عالماً مشبعاً بالتعقيدات والمفارقات… ففي عالم السياسة، كما في دولة القانون، تلعب الأعراف دوراً حاسماً في تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي. فالعرف في القانون يُعدّ مصدراً غير مكتوب للتشريع، حيث يكتسب قوته من التزام الناس به، حتى وإن لم يكن منصوصاً عليه في المواد التشريعية والدستورية. وفي بعض الأحيان يكون لهذه الأعراف تأثير أكبر على السلوك الجمعي من القواعد والتشريعات الدستورية. وهذا الأمر يتجلى بشكل واضح في الانتخابات الأميركية؛ حيث تفرض العادات والأعراف الاجتماعية واقعاً مغايراً للقوانين المكتوبة في أقدم دستور مكتوب بالعالم.

فالدستور الأميركي يضمن لكل مواطن أميركي بالولادة حق الترشح للرئاسة بغض النظر عن عرقه أو دينه أو آيديولوجيته. ومع ذلك، وعبر تاريخ الولايات المتحدة، لم يكن لهذه القوانين الدستورية القول الفصل في تحديد هوية الرئيس أمام قوة الأعراف الاجتماعية التي كانت وما زالت تؤثر بشكل واضح في السلوك التصويتي للناخب الأميركي. وبسبب هذه العلاقة الجدلية، صك المحللون السياسيون مصطلح «WASP (دبليو إيه إس بي)»؛ أي «الأنغلوساكسون البيض البروتستانت». وهذا المفهوم يشير باختصار إلى السمات المهمة التي ينبغي توفرها في مرشحي الرئاسة الأميركية، والتي تعزز غالباً من فرص وصولهم إلى إدارة البيت الأبيض. أولى هذه السمات الانتماء العرقي إلى الأمة الأنغلوسكسونية التي هاجرت من مناطق شمال وغرب أوروبا واستوطنت المستعمرات الأميركية في القرن السابع عشر. أما السمتان الثانية والثالثة اللتان يفترض توفرهما في مرشح الرئاسة، فهي انتماؤه إلى المذهب البروتستانتي المسيحي، وأن تكون هويته الإثنية متجذرة في العرق الأبيض الأوروبي. وأضاف باحثون آخرون حرف «M» للدلالة على أهمية أن يكون المرشح رجلاً. وبالفعل، عبر مسار التاريخ الأميركي كله، لم يُنتخب رئيس أميركي خارج هذه العناصر الأربعة؛ إلا في حالتين اثنتين.

فقد استمرت قوة عرف الـ«WASP» في الهيمنة على الوعي السياسي للمصوت الأميركي لأكثر من مائتي سنة، عدا في حالتين استثنائيتين… كانت الأولى بفوز جون كيندي بوصفه أول رئيس كاثوليكي في عام 1960، وكان كسراً لهذا العرف السائد. إلا إن كيندي، رغم فوزه، واجه انتقادات شديدة بسبب مذهبه الكاثوليكي، حيث كان يُنظر إليه بشك من قبل بعض الناخبين الذين كانوا يخشون تأثير الكنيسة الكاثوليكية على قراراته السياسية. وبعد اغتيال كيندي لم تتوقف هيمنة الـ«WASP» على تشكيل السلوك التصويتي الأميركي لأكثر من نصف قرن آخر. ثم شهد الواقع السياسي الأميركي تحولاً جوهرياً كسر فيه المجتمع عرف الـ«WASP» بانتصار باراك أوباما بصفته أول رئيس أميركي من أصول أفريقية. وبعد انتهاء فترة الولاية الرئاسية لأوباما، شهد البيت الأبيض وجود رئيسين من حزبين مختلفين ينتميان إلى دائرة مجتمع الـ«WASP»، وهو الأمر الذي يؤكد على القوة النافذة لهذا العرف وأسبقيته على القوانين الدستورية، وأن الاستثناء يثبت القاعدة.

اليوم، تواجه المرشحة كامالا هاريس، التي تحمل إرثاً عرقياً ودينياً مختلفاً، تحديات أشد تعقيداً من أوباما وكيندي في مواجهة العرف الاجتماعي للـ«WASP»… فهي امرأة أولاً، وثانياً؛ هي امرأة من أصول هندية وأفريقية ولا تنتمي إلى العرق الأبيض الأنغلوسكسوني. فمن منظور القاعدة التصويتية الكبرى في أميركا، فهاريس تتحدر من أصول جنوب آسيوية وأفريقية، وبالتالي تُعدّ تهديداً للهوية الأميركية التقليدية وفق منظورهم الخاص، وهي هوية رُسخت لسنوات طويلة عبر هذه الأعراف الاجتماعية. وأكد الرئيس السابق دونالد ترمب هذا التحيز عندما طرح سؤالاً استفزازياً خلال حملته الانتخابية حول ما إذا كانت منافسته الديمقراطية «هندية» أم «سوداء»، لدغدغة عواطف الجماهير المتحيزة إلى القاعدة الإلزامية لأعراف الـ«WASP». هذا السؤال الذي طرحه ترمب لم يكن مجرد تعليق ساذج وعابر، بل كان انعكاساً لتحفظات عميقة الجذور تتعلق بالهوية الثقافية والوطنية الأميركية.

بالإضافة إلى التحديات المرتبطة بهويتها العرقية، فهاريس أيضاً تواجه تحدياً مرتبطاً بانتمائها الديني؛ فلأنها تنتمي إلى عائلة متعددة الأديان، فهذا يضعف بشكل كبير من فرص فوزها بالرئاسة عند الجماهير المسيحية المحافظة والمنظمة بشكل فعال داخل مؤسسات المجتمع المدني الواسعة بأميركا. وازداد الأمر تعقيداً أمامها بسبب التصور العام عند الناخب الأميركي بتبعية هاريس لبايدن نظراً إلى افتقارها للخبرات السياسية اللازمة، علاوة على أن سياساتها الليبرالية، سواء في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وإن كانت تعزز من فرصها الانتخابية عند الديمقراطيين الليبراليين واليساريين، إلا إنها تستلب منها فرص استقطاب الجماهير المحايدة المحافظة كالمسلمين وبعض الأقليات الثقافية المحافظة.

ختاماً؛ وعلى الرغم من بعض المؤشرات الإيجابية في استطلاعات الرأي التي أظهرت دعماً مزداداً لهاريس من شرائح متنوعة في المجتمع الأميركي، فإن تلك التغيرات لربما لا تكون كافية بعدُ لتجاوز العرف الراسخ غير المكتوب للـ«WASP» الذي يطغى على قوانين الدستور الأميركي كما كانت الحال باكتساح هذا العرف السلوك التصويتي بمجرد خروج كيندي وأوباما من الحكم. ولكن، في الوقت ذاته، إن حالف الحظ هاريس بالفوز، فإن ذلك سيعني تحولاً في سلوك المصوتين الأميركيين نحو تخفيف تأثير هيمنة العرف الاجتماعي لـ«WASP»، وتدشين مرحلة جديدة تشير بكل تفاصيلها إلى قبول الوعي السياسي الأميركي بأن تقودهم امرأة من أصول غير بيضاء وغير بروتستانتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى