أخطار انعزال أميركا
تدعو وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس إلى أن تظل بلادها ضالعة في السياسة العالمية. فمثل هذا الضلوع من شأنه أن يساعد في كبح جماح الدول التعديلية مثل روسيا والصين، ويعزز كفة العالم الديموقراطي الليبرالي
في أوقات عدم اليقين يلجأ الناس إلى المقارنات التاريخية، فبعد أحداث الـ 11 من سبتمبر (أيلول) استخدم مسؤولو إدارة جورج دبليو بوش الهجوم على “بيرل هاربر” كمثال مرجعي لتحليل الفشل الاستخباراتي الذي أدى إلى تلك الأحداث، واستذكر وزير الخارجية كولن باول الهجوم الذي شنته الإمبراطورية اليابانية ليجادل بأن واشنطن يجب أن توجه إنذاراً نهائياً لـ “طالبان” قائلاً إن “الدول المتحضرة لا تشن هجمات مفاجئة”، وعندما حاول المسؤولون في غرفة العمليات تقييم التقدم في أفغانستان، ولاحقاً في العراق، برز تشبيه آخر مرات عدة وهو اعتماد الرئيس الأميركي ليندون جونسون الكارثي على إحصاء عدد ضحايا الخصم في حرب فيتنام [لقياس ما إذا كانت الولايات للمتحدة تفوز في الحرب]، وعلى رغم أن التاريخ لا يكرر نفسه إلا أن أوجه التشابه ممكنة في بعض الأحيان.
واليوم التشبيه المفضل هو الحرب الباردة، فمع تولي الصين حالياً دور الاتحاد السوفياتي تواجه الولايات المتحدة مرة أخرى خصماً يتمتع بنفوذ عالمي وأطماع نهمة، وبالطبع هذا التشبيه جذاب بخاصة لأن الولايات المتحدة وحلفاءها انتصروا في الحرب الباردة، ولكن الفترة الحالية ليست تكراراً للحرب الباردة بل هي أكثر خطورة، فالصين ليست الاتحاد السوفياتي.
في الواقع كان الاتحاد السوفياتي منعزلاً على نفسه مفضلاً الاكتفاء الذاتي على الاندماج، في حين أن الصين أنهت عزلتها في أواخر السبعينيات من القرن الـ 20، والاختلاف الثاني بين الاتحاد السوفياتي والصين هو دور الأيديولوجية، فبموجب “مبدأ بريجنيف” الذي حكم أوروبا الشرقية، كان على الحليف أن يكون نسخة طبق الأصل عن الشيوعية السوفياتية، أما الصين فعلى النقيض من ذلك فهي لا تهتم كثيراً بالشؤون والأنظمة الداخلية الخاصة بالدول الأخرى، فهي تدافع بشدة عن أسبقية الحزب الشيوعي الصيني وتفوقه، لكنها لا تصر على أن يعتمد الآخرون نظاماً مطابقاً، على رغم استعدادها لدعم الدول الاستبدادية من خلال تصدير تقنيات المراقبة وخدمات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها، وإذا لم تكن المنافسة الحالية نسخة ثانية من الحرب الباردة فما هي إذاً؟
انصياعاً للرغبة في إيجاد مراجع تاريخية، وإن لم تكن تشابهات، قد يجد المرء مزيداً من الأفكار المفيدة في الإمبريالية في أواخر القرن الـ 19 والاقتصادات ذات المحصلة الصفرية [الاقتصادات التي تقوم على انتصار طرف وخسارة الآخر] في فترة ما بين الحربين العالميتين، والآن، كما في تلك الأزمنة، تكتسب القوى التعديلية أراض بالقوة والنظام الدولي يتفكك، لكن ربما التشابه الأبرز والأكثر إثارة للقلق هو أن الولايات المتحدة تميل إلى الانطواء على نفسها مثلما حصل خلال الفترات السابقة.
تجدد المنافسات الجيوسياسية
في حين أن العصور السابقة من المنافسة كانت تتسم بالصراعات بين القوى العظمى، فخلال الحرب الباردة خيضت النزاعات الإقليمية بصورة رئيسة عبر حروب بالوكالة مثلما حدث في أنغولا ونيكاراغوا، وقد حصرت موسكو استخدامها للقوة العسكرية في الغالب في مجال نفوذها في أوروبا الشرقية، على غرار ما حدث عندما قمعت الانتفاضات في المجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968)، واعتُبر الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 تصعيداً كبيراً غير مسبوق، لكن هذه الخطوة لم تهدد المصالح الأميركية بصورة أساس، وتحول الصراع في نهاية المطاف إلى حرب بالوكالة، أما في الأماكن التي حضرت فيها القوات السوفياتية والأميركية بصورة مباشرة عبر حدود ألمانيا المنقسمة، فقد أدى الخطر الشديد الذي فرضته أزمتا برلين في النهاية إلى وضع مستقر ولكن مشوب بالتوتر بفضل الردع النووي.
إن المشهد الأمني اليوم يشمل خطر الصراع العسكري المباشر بين القوى العظمى، فالمطالبات الإقليمية للصين تشكل تحدياً لحلفاء الولايات المتحدة بما في ذلك اليابان والفيليبين وغيرهما من شركاء واشنطن في المنطقة مثل الهند وفيتنام، وإضافة إلى ذلك فإن المصالح الأميركية الراسخة منذ زمن طويل، مثل حرية الملاحة، تصطدم بصورة مباشرة مع الطموحات البحرية الصينية، ثم هناك قضية تايوان، فالهجوم على تايوان يستلزم رداً عسكرياً أميركياً حتى لو خلقت سياسة “الغموض الإستراتيجي” حالاً من عدم اليقين في شأن طبيعة هذا الرد على وجه التحديد. طوال أعوام لعبت الولايات المتحدة دوراً شبيهاً بجهاز “الريوستات” [جهاز ينتظم تدفق التيار الكهربائي، وهو تعبير مجازي لوصف الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في إدارة التوترات وخلق التوازن] في مضيق تايوان، بهدف الحفاظ على الوضع الراهن، فمنذ عام 1979 باعت الإدارات من كلا الحزبين الأسلحة إلى تايوان، وأرسل الرئيس بيل كلينتون حاملة الطائرات “يو أس أس إندبندنس” USS Independence إلى المضيق عام 1996 رداً على نشاط بكين العدواني، وفي عام 2003 أنّبت إدارة بوش الرئيس التايواني تشن شوي بيان علناً عندما اقترح إجراء استفتاء بدا وكأنه تصويت على الاستقلال، وطوال هذه الفترة كان الهدف هو الحفاظ على ما أصبح وضعاً راهناً مستقراً نسبياً، أو في بعض الأحيان استعادة هذا الاستقرار.
خلال الأعوام الأخيرة مثلت الأنشطة العسكرية العدوانية التي مارستها بكين حول تايوان تحدياً لهذا التوازن، وفي واشنطن تحول الغموض الإستراتيجي في الغالب إلى مناقشة مفتوحة حول كيفية ردع الغزو الصيني وإذا لزم الأمر صده، لكن بكين قد تهدد تايوان بطرق أخرى وتفرض حصاراً على الجزيرة تطبيقاً لما تدربت عليه القوات الصينية، أو قد تستولي على جزر تايوانية صغيرة غير مأهولة، أو تقطع الكابلات تحت الماء، أو تشن هجمات سيبرانية واسعة النطاق، وقد تكون هذه الإستراتيجيات أكثر ذكاء من شن هجوم صعب ومحفوف بالأخطار على تايوان، ومن شأنها أن تعقد طريقة رد الولايات المتحدة.
من المثير للقلق أن الولايات المتحدة والصين لم تنشئا أياً من إجراءات تفادي الصراع القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا
إن النقطة الأساس هنا هي أن أنظار بكين مركزة على تايوان، فالزعيم الصيني شي جينبينغ الذي ينظر إلى الجزيرة باعتبارها مقاطعة مارقة، يسعى إلى استكمال عملية استعادة الصين وأخذ مكانه في مصاف القادة العظماء إلى جانب ماو تسي تونغ، ولقد أصبحت هونغ كونغ الآن فعلياً مقاطعة من الصين، ومن المؤكد أن إخضاع تايوان من شأنه أن يحقق طموح شي، مما قد يؤدي إلى نشوب صراع مفتوح بين القوات الأميركية والصينية.
ولكن من المثير للقلق أن الولايات المتحدة والصين لم تنشئا أياً من إجراءات تفادي الصراع القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، فخلال حرب عام 2008 في جورجيا، على سبيل المثال، كان رئيس هيئة الأركان المشتركة مايكل مولن على اتصال مستمر بنظيره الروسي نيكولاي ماكاروف لتجنب وقوع أية حادثة في وقت كانت القوات الجوية الأميركية تنقل القوات الجورجية من العراق إلى جورجيا للمشاركة في القتال، وبالمقارنة بما حدث عام 2001 عندما اصطدم طيار صيني متهور بطائرة استطلاع أميركية وأجبرها على الهبوط، احتُجز الطاقم في جزيرة هاينان، ولمدة ثلاثة أيام لم تتمكن واشنطن من إجراء اتصال رفيع المستوى مع القيادة الصينية.
لقد كنت مستشارة للأمن القومي في ذلك الوقت، وأخيراً تمكنت من تحديد مكان نظيري الصيني الذي كان في رحلة إلى الأرجنتين، وطلبت من الأرجنتينيين إحضار الهاتف له في حفل شواء حتى يتمكن من الرد على المكالمة، وقلت له “أخبر قادتك بأن يردوا على مكالمتنا”، وفقط بعدها تمكنّا من نزع فتيل الأزمة وتحرير الطاقم.
إعادة فتح الاتصالات العسكرية مع الصين في وقت سابق من هذا العام بعد تجميدها أربعة أعوام تطور مرحب به، بيد أن هذا لا يزال بعيداً كل البعد من أنواع الإجراءات وخطوط الاتصال اللازمة لمنع وقوع كارثة عرضية.
في الواقع إن التحسينات التي تجريها الصين على قوتها العسكرية التقليدية مثيرة للإعجاب وتحدث بوتيرة سريعة، فهي تمتلك البلاد الآن أكبر قوة بحرية في العالم تضم أكثر من 370 سفينة وغواصة، وبطريقة موازية يُعتبر نمو الترسانة النووية الصينية مثيراً للقلق أيضاً، وخلال الحرب الباردة توصلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى تفاهم مشترك حول كيفية الحفاظ على التوازن النووي، لكن ذلك كان بين لاعبين فقط، وفي المقابل إذا استمر التحديث النووي في الصين فسـ يواجه العالم سيناريو أكثر تعقيداً ومتعدد اللاعبين، ومن دون شبكة الأمان التي طورتها موسكو وواشنطن.
ويزداد إمكان الصراع في ظل سباق التسلح في التكنولوجيا الثورية على غرار الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والبيولوجيا التركيبية والروبوتات والتقدم في الفضاء وغيرها، ففي عام 2017 ألقى شي خطاباً أعلن فيه أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة في هذه التقنيات الرائدة بحلول عام 2035، وعلى رغم أنه كان يحاول بلا شك تحفيز العلماء والمهندسين الصينيين، فقد يكون ندم على هذ الخطاب لاحقاً، فمثلما حدث بعد أن أطلق الاتحاد السوفياتي القمر الاصطناعي “سبوتنيك”، اضطرت الولايات المتحدة إلى مواجهة احتمال خسارتها السباق التكنولوجي لمصلحة خصمها الرئيس، مما دفع واشنطن إلى بذل جهود متضافرة ومنسقة لمواجهة هذا التهديد.
التحسينات التي تجريها الصين على قوتها العسكرية التقليدية مثيرة للإعجاب وهي تمتلك البلاد الآن أكبر قوة بحرية في العالم
عندما تفشت جائحة كورونا عام 2020، أدركت الولايات المتحدة فجأة نقاط ضعف إضافية، فقد كانت سلسلة التوريد لكل المواد، من المستلزمات الدوائية إلى المعادن النادرة، تعتمد على الصين، وتصدرت بكين الصناعات التي كانت الولايات المتحدة تهيمن عليها ذات يوم مثل إنتاج البطاريات، وتبين أن الوصول إلى أشباه الموصلات المتطورة، وهي صناعة أنشأتها شركات أميركية عملاقة مثل “إنتل”، يعتمد على أمن تايوان حيث يجري تصنيع 90 في المئة من الرقائق المتقدمة.
من الصعب التعبير عن مدى الصدمة والشعور بالخيانة اللذين انتابا قادة الولايات المتحدة، فلطالما شكلت السياسة الأميركية تجاه الصين نوعاً من التجارب راهن فيها مؤيدو المشاركة الاقتصادية على أنها ستؤدي إلى إصلاح سياسي، وعلى مدى عقود من الزمان بدا أن الفوائد المترتبة على هذا الرهان تفوق السلبيات، وعلى رغم التحديات المتعلقة بحماية الملكية الفكرية والوصول إلى السوق (وهي مشكلات كانت موجودة بالفعل)، فإن النمو المحلي الصيني غذى النمو الاقتصادي الدولي، فقد كانت الصين سوقاً جذابة ووجهة استثمارية جيدة ومورداً قيماً للعمالة المنخفضة الكلفة، وامتدت سلاسل التوريد من الصين إلى جميع أنحاء العالم، وبحلول الوقت الذي انضمت فيه الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 زاد إجمال حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين بنحو خمسة أضعاف عما كان عليه في العقد السابق، ليصل إلى 120 مليار دولار، وبدا من المحتم أن الصين ستتغير داخلياً لأن التحرير الاقتصادي والسيطرة السياسية لا يتوافقان في النهاية، وقد وصل شي إلى السلطة وهو يتفق مع هذا المبدأ، ولكن ليس بالطريقة التي كان يأمل بها الغرب، فبدلاً من التحرير الاقتصادي اختار السيطرة السياسية.
لم يكن من المستغرب أن تغير الولايات المتحدة مسارها في نهاية المطاف، وقد بدأت في ذلك مع إدارة ترمب واستمرت في ظل إدارة بايدن، وظهر إجماع بين الحزبين على أن سلوك الصين غير مقبول، ونتيجة لهذا تعمل الولايات المتحدة الآن على قدم وساق لفصل قطاع التكنولوجيا الأميركي عن الصيني وتنفيذ شبكة معقدة من القيود على الاستثمارات الخارجية والداخلية، وفي الوقت الحالي تبقي الجامعات الأميركية أبوابها مفتوحة لاستقبال الطلاب الصينيين في الدراسات العليا وتعزيز التعاون الدولي، وكلاهما فوائده كبيرة للمجتمع العلمي الأميركي، إلا أن هناك وعياً أكبر بكثير حول التحدي الذي يمكن أن تشكله هذه الأنشطة على الأمن القومي.
ولكن حتى الآن لا يمتد الانفصال إلى جميع الأنشطة التجارية، وسيظل الاقتصاد الدولي في خدمة التجارة والاستثمار بين أكبر اقتصادين في العالم، وقد يكون حلم التكامل السلس قد انتهى، بيد أن استمرار بكين في المشاركة في النظام الدولي قد تكون له آثار إيجابية، بما في ذلك الاستقرار العالمي، وسيكون من الصعب معالجة بعض المشكلات مثل تغير المناخ من دون تعاون الصين، لذا، ستحتاج واشنطن وبكين إلى إرساء أساس جديد لعلاقة عملية.
عودة الإمبراطورية الروسية
في المناظرة الرئاسية الأخيرة عام 2012، زعم الرئيس الأميركي باراك أوباما أن خصمه ميت رومني كان يبالغ في تقدير الخطر الذي تشكله روسيا، مشيراً إلى أن البلاد لم تعد تمثل تهديداً جيوسياسياً، ومع ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 أصبح من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى الأمور بصورة مختلفة، ثم أدت الخطوة التالية المتمثلة في غزو أوكرانيا عام 2022 إلى وضع طموحات بوتين لإحياء الإمبراطورية الروسية في مواجهة مباشرة مع الخطوط الحمر المحددة في المادة الخامسة من معاهدة تأسيس حلف شمال الأطلسي التي تنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف يُعد هجوماً على جميع الأعضاء، وفي وقت باكر من الحرب كان حلف الـ “ناتو” قلقاً من أن موسكو قد تهاجم خطوط الإمداد في بولندا ورومانيا، وهما عضوان في الحلف، وحتى الآن لم يُظهر بوتين أية رغبة في تفعيل المادة الخامسة، لكن البحر الأسود (الذي كان القياصرة يعتبرونه بحيرة روسية) أصبح مرة أخرى مصدراً للصراع والتوتر، ومن اللافت للنظر أن أوكرانيا، وهي دولة بالكاد تمتلك قوة بحرية، تمكنت من تحدي القوة البحرية الروسية بنجاح وأصبح بإمكانها الآن نقل الحبوب على طول ساحلها، والأمر الأسوأ بالنسبة إلى بوتين هو أن مجازفته أنتجت تحالفاً إستراتيجياً بين أوروبا والولايات المتحدة ومعظم بقية العالم، مما أدى إلى فرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا، وقد أصبحت الآن دولة معزولة ومسلحة بصورة كبيرة.
بوتين لا يستطيع أن يخسر هذه الحرب، وهو على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل تجنب الكارثة
بالتأكيد لم يكن بوتين يتوقع أن تسير الأمور على هذا النحو، فقد اعتقدت موسكو في البداية أن أوكرانيا ستسقط في غضون أيام من الغزو، وكانت القوات الروسية تحمل مؤناً وملابس عسكرية تكفيها مدة لا تتخطى الثلاثة أيام، إضافة إلى زي رسمي للمشاركة في عرض النصر العسكري الذي توقعت إقامته في كييف، ثم كشفت السنة الأولى المحرجة من الحرب عن نقاط ضعف القوات المسلحة الروسية التي اتضح أنها كانت تعاني الفساد وعدم الكفاءة، ولكن كما فعلت طوال تاريخها، نجحت روسيا في تحقيق استقرار على الجبهة بالاعتماد على تكتيكات قديمة الطراز مثل موجات من الهجمات البشرية المكثفة والخنادق والألغام الأرضية، والطريقة التدريجية التي زودت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها أوكرانيا بالأسلحة بعد أن ناقشت أولاً ما إذا كان ينبغي إرسال الدبابات ثم فعلت ذلك في نهاية المطاف، وهلم جرا، فقد أتاحت لموسكو فسحة من الوقت لتعبئة قاعدتها الصناعية الدفاعية واستخدام تفوقها الهائل في عدد الأفراد ضد الأوكرانيين.
لكن الأعباء الاقتصادية ستظل تثقل كاهل موسكو لأعوام مقبلة، وتشير التقديرات إلى أن مليون روسي فروا من بلادهم رداً على حرب بوتين، وكثير منهم من الشباب المتعلمين، وعلاوة على ذلك أصيب قطاع النفط والغاز في روسيا بالشلل بسبب خسارة أسواق مهمة وانسحاب شركات النفط المتعددة الجنسيات العملاقة مثل “بريتيش بتروليوم” و”إكسون موبيل” و”شل”، وقد نجحت رئيسة البنك المركزي الروسي الموهوبة إلفيرا نابيولينا في تخطي كثير من نقاط الضعف في الاقتصاد، فأدارت الأمور بدقة من دون إمكان الوصول إلى 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة في الغرب، وتدخلت الصين لتخفيف بعض الضغوط، بيد أن الشقوق في الاقتصاد الروسي بدأت تظهر، فوفق تقرير طلبته شركة “غازبروم”، شركة الطاقة العملاقة المملوكة في معظمها للدولة، فإن إيرادات الشركة ستبقى دون المستويات التي سجلتها قبل الحرب لمدة لا تقل عن عشر أعوام بسبب تداعيات الغزو.
ويشعر الخبراء الاقتصاديون في موسكو بالقلق ولكن بوتين لا يستطيع أن يخسر هذه الحرب، وهو على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل تجنب الكارثة، وكما تُظهر تجربة ألمانيا في فترة ما بين الحربين العالميتين فإن القوة المعزولة والمسلحة والمتدهورة تشكل خطراً بالغاً، ويزداد الوضع تعقيداً بسبب التعاون المتزايد بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، وفي الواقع تتقاسم هذه الدول الأربع قضية مشتركة وهي تقويض النظام الدولي الذي يكرهونه والخاضع لقيادة الولايات المتحدة، واستبداله في نهاية المطاف، ومع ذلك يشار إلى أنه ليس من السهل التوفيق بين المصالح الإستراتيجية لهذه الدول، فعلى رغم أن بكين لا تستطيع أن تسمح بخسارة بوتين إلا أنها ليست متحمسة فعلياً لمغامراته في سبيل إقامة إمبراطورية روسية جديدة، بخاصة إذا كان ذلك يعرض الصين إلى عقوبات ثانوية تزيد تعثر اقتصادها.
وفي الوقت نفسه من المستبعد أن يلقى نمو القوة الصينية في وسط آسيا وخارجها استحساناً لدى المُعادين للأجانب في الكرملين، وفي الواقع فإن طموحات الصين تعقد علاقات روسيا مع الهند، الشريك العسكري القديم الذي يميل الآن بصورة متزايدة نحو الولايات المتحدة، إضافة إلى أن علاقة روسيا العابرة مع كوريا الشمالية تعقد علاقتها مع كوريا الجنوبية ومع الصين أيضاً، وإيران تثير رعب كل من روسيا والصين مع اقترابها من امتلاك السلاح النووي، وفي الشرق الأوسط يشكل وكلاء طهران مصدراً دائماً للمتاعب، إذ إن الحوثيين يعرضون الشحن في البحر الأحمر للخطر، و”حماس” أطلقت حرباً متهورة مع إسرائيل، و”حزب الله” في لبنان يهدد بتوسيع هذه الحرب إلى صراع إقليمي، والميليشيات في العراق وسوريا، التي لا يبدو أن طهران تسيطر عليها دائماً، نفذت هجمات على أفراد عسكريين أميركيين، ويذكر أن الشرق الأوسط المتوتر وغير المستقر يضر بكل من روسيا والصين، وبطريقة موازية لا تثق أي من هذه القوى الثلاث في قائد كوريا الشمالية المتقلب كيم جونغ أون.
ومع ذلك فإن السياسة الدولية لطالما كانت سبباً في خلق تحالفات غريبة عندما تسعى القوى التعديلية إلى تغيير الوضع الراهن، وعلى رغم اختلافاتها فبوسع هذه القوى مجتمعة أن تتسبب بأضرار كبيرة.
النظام المتداعي
كان النظام الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية رد فعل مباشر لأهوال فترة ما بين الحربين العالميتين، فقد نظرت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الكساد الاقتصادي والعدوان الدولي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ 20، ووجدوا أن السبب هو سياسات “إفقار الجار” الحمائية والتلاعب بالعملة والسعي العنيف إلى الحصول على الموارد، مما أدى على سبيل المثال إلى السلوك العدواني من جانب إمبراطورية اليابان في المحيط الهادئ، وكذلك لعب غياب الولايات المتحدة كوسيط خارجي دوراً في انهيار النظام، فقد تبين أن الجهد الوحيد لبناء مؤسسة معتدلة بعد الحرب العالمية الأولى، عصبة الأمم، كان وصمة عار مخزية، إذ كانت تغطي العدوان بدلاً من مواجهته، وسقطت القوى الآسيوية والأوروبية التي تُركت لتتدبر أمورها بنفسها، في صراع كارثي.
بعد الحرب العالمية الثانية عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها على بناء نظام اقتصادي لم يعد قائماً على مبدأ المحصلة الصفرية [أي أن تكون خسارة طرف معادلة لحجم فوز الطرف الآخر]، وفي “مؤتمر بريتون وودز” أرست الولايات المتحدة وحلفاؤها الأساس لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاق العام للتعريفات والتجارة (الذي تطور لاحقاً إلى منظمة التجارة العالمية)، وعملت هذه الكيانات معاً على تعزيز حرية حركة السلع والخدمات وتحفيز النمو الاقتصادي الدولي، وفي معظمها كانت هذه إستراتيجية ناجحة إلى حد كبير، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي العالمي بصورة مطردة ليتجاوز عتبة 100 تريليون دولار عام 2022، وقد ترافق مع هذا “الإطار الاقتصادي المشترك” “إطار أمني مشترك” قادته الولايات المتحدة أيضاً من خلال الموافقة على المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، ضمنت واشنطن الدفاع عن أوروبا، وهذا يعني أنه بعد التجربة النووية التي أجراها الاتحاد السوفياتي عام 1949 كانت الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة بمدنها الكبرى مثل نيويورك أو واشنطن من أجل سلامة العواصم الأوروبية مثل لندن أو بون، وسمح التزام مماثل من الولايات المتحدة تجاه اليابان بأن تستبدل هذه الأخيرة إرث جيشها الإمبراطوري المكروه بقوات الدفاع عن النفس ودستور “السلام”، مما أدى إلى تسهيل العلاقات مع جيرانها، وبحلول عام 1953 حصلت كوريا الجنوبية أيضاً على ضمانة أمنية أميركية مما ضمن السلام في شبه الجزيرة الكورية، ومع انسحاب المملكة المتحدة وفرنسا من الشرق الأوسط بعد أزمة السويس عام 1956، أصبحت الولايات المتحدة الضامن لحرية الملاحة في المنطقة، وتحولت مع مرور الوقت إلى القوة الرئيسة التي تعمل على فرض الاستقرار في تلك المنطقة.
في الحقيقة لم نشهد بعد عودة النظام الدولي الحالي لما كان عليه في أوائل القرن الـ 20، وكثيراً ما يُبالغ في الحديث عن نهاية العولمة، بيد أن الاندفاع نحو إعادة الصناعة إلى الوطن أو إلى الدول المجاورة أو الحليفة، وهو يمثل في الغالب رد فعل تجاه الصين، يشير إلى تراجع التكامل العالمي، فقد كانت الولايات المتحدة غائبة إلى حد كبير عن المفاوضات التجارية منذ ما يقارب عقداً من الزمان، ومن الصعب أن نتذكر المرة الأخيرة التي دافع فيها سياسي أميركي بحماسة عن التجارة الحرة، واليوم يثار السؤال الآتي: هل يمكن أن يستمر الطموح إلى حركة أكثر حرية للسلع والخدمات في غياب مشاركة الولايات المتحدة؟
في الواقع إن العولمة ستستمر في شكل ما، ولكن الشعور بأنها قوة إيجابية فقدَ زخمه، ودعونا ننظر هنا إلى الطريقة التي تصرفت بها البلدان استجابة لهجمات الـ 11 من سبتمبر مقارنة بطريقة تصرفها لمواجهة الجائحة، فبعد هجمات الـ 11 من سبتمبر توحد العالم في التصدي للإرهاب، وهي مشكلة كانت كل دولة تقريباً تعانيها بصورة ما، وفي غضون أسابيع قليلة من الهجوم أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع قراراً يسمح بتتبع تمويل الإرهاب عبر الحدود، وسارعت البلدان إلى توحيد معايير أمن مطاراتها، وسرعان ما انضمت الولايات المتحدة إلى بلدان أخرى لإنشاء “المبادرة الأمنية لمكافحة الانتشار” Proliferation Security Initiative، وهي منتدى لتبادل المعلومات حول الشحنات المشبوهة نما ليشمل أكثر من 100 دولة عضو.
وبالانتقال إلى عام 2020 فقد شهد العالم عودة القومية والمصالح الذاتية للدول، فقد تعرضت المؤسسات الدولية للخطر، وخير مثال على ذلك كان منظمة الصحة العالمية التي أصبحت متحيزة للغاية لمصلحة الصين، وإضافة إلى ذلك أدت القيود المفروضة على السفر وحظر تصدير معدات الوقاية والمطالبات باللقاحات إلى تعقيد الطريق نحو التعافي.
ومع اتساع الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى فمن الصعب أن نتخيل أن هذا الاتجاه قد يتغير، فالتكامل الاقتصادي الذي اُعتقد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أنه مشروع مشترك للنمو والسلام، قد حل مكانه صراع تنافسي شرس على الأراضي والأسواق الاقتصادية والابتكار، ومع ذلك قد تُعقد الآمال على أن تكون البشرية قد تعلمت من العواقب الكارثية التي نجمت عن الحمائية والانعزالية في أواخر القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20، إذاً كيف يمكنها تجنب تكرار التاريخ؟
صراع الشفق الجديد
قد تأخذ الولايات المتحدة بنصيحة الدبلوماسي جورج كينان في “البرقية الطويلة” الشهيرة التي كتبها عام 1946 حين أوصى كينان واشنطن بحرمان الاتحاد السوفياتي من مسار التوسع السهل إلى الخارج مما سيجعله مضطراً إلى معالجة تناقضاته الداخلية، وكانت هذه النصيحة حكيمة، فبعد أربعة عقود من الزمان آلت محاولات الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الرامية إلى إصلاح نظام فاسد تماماً إلى انهياره في نهاية المطاف، واليوم أصبحت التناقضات الداخلية في روسيا تظهر بوضوح، فقد أضاع بوتين أكثر من 30 عاماً من الاندماج الروسي في الاقتصاد الدولي سدى، وأصبح يعتمد الآن على شبكة من الدول الانتهازية التي تقدم له دعماً هزيلاً للحفاظ على نظامه، ولا أحد يعرف إلى متى قد تبقى هذه الواجهة الزائفة للعظمة الروسية، ولكنها قد تسبب أضراراً كبيرة قبل أن تتصدع وتنهار، وإلى أن يحدث ذلك فمن الضروري جداً مقاومة العدوان العسكري الروسي وردعه.
في الواقع إن بوتين يعتمد على شعب خاضع يفتقر إلى المعلومات ومعها إلى الأخبار الموضوعية، ويعمل نظامه على غرس الأفكار في عقول الشباب على نحو يذكرنا بـ “منظمة شباب هتلر”، والواقع أن الإعلان الذي صدر في يونيو (حزيران) الماضي عن أن الأطفال الروس سيلتحقون بمعسكرات صيفية في كوريا الشمالية، من بين كل الأماكن على وجه التحديد، كان صادماً، فالروس الذين كانوا قادرين ذات يوم على السفر والدراسة في الخارج يواجهون الآن مستقبلاً مختلفاً، ويقول لهم بوتين إن عليهم أن يقدموا التضحيات في خدمة “روسيا الأم”.
ومع ذلك فإن الإمكانات البشرية في روسيا كانت عظيمة دائماً على رغم ما يبدو في كثير من الأحيان وكأنه مؤامرة متعمدة من جانب قادتها لتدميرها، ويتعين على الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما الحفاظ على بعض الاتصال بالشعب الروسي، وينبغي السماح للروس، عندما يكون ذلك ممكناً، بالدراسة والعمل في الخارج، وإضافة إلى ذلك يجب بذل الجهود، سواء كانت علنية أو سرية لفضح بروباغندا بوتين المضللة وبخاصة في المدن، حيث لا يحظى بثقة الشعب ومحبته، وأخيراً لا يمكن التخلي عن المعارضة الروسية، فدول البلطيق تستضيف عدداً كبيراً من المنتمين إلى المنظمة التي أسسها الناشط أليكسي نافالني المتوفى في سجن سيبيري خلال فبراير (شباط) الماضي، وكان نافالني واحداً من القلائل الذين حظي بأتباع حقيقيين في كثير من أنحاء روسيا، ولا يمكن أن تكون وفاته نهاية لقضيته.
إن العزلة لم تكن قط الحل لأمن الولايات المتحدة أو ازدهارها
إن مثال نقابة “التضامن” (سوليدارنوست) العمالية البولندية يقدم لنا درساً مهماً في كيفية دعم الحركات المناهضة للسلطوية، فعندما أعلن النظام البولندي المتحالف مع السوفيات الأحكام العرفية عام 1981، لجأ ليخ فاليسا، زعيم حركة “التضامن” مع منظمته إلى العمل السري، وظلت الحركة صامدة بفضل دعم ثلاثي غريب تألف من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في عهد إدارة ريغان، والاتحاد الأميركي للعمال ومؤتمر المنظمات الصناعية والفاتيكان (والبابا المولود في بولندا يوحنا بولس الثاني)، وقد تلقت حركة “التضامن” دعماً بسيطاً نسبياً من الخارج مثل الأموال والمطابع، ولكن عندما ظهرت فرصة سياسية عام 1989 كان فاليسا ورفاقه جاهزين لتولي القيادة وإدارة انتقال سلس نسبياً إلى الديمقراطية، والدرس الأهم هنا هو أن الجهود الحثيثة قادرة على دعم الحركات المعارضة مهما كان ذلك صعباً في روسيا تحت حكم بوتين.
ولا شك في أن مستقبل الصين ليس قاتماً مثل مستقبل روسيا، ومع ذلك تعاني الصين أيضاً من تناقضات داخلية إذ تشهد البلاد تحولاً ديموغرافياً سريعاً نادراً ما نشهده خارج سياق الحروب، فقد انخفضت الولادات بأكثر من 50 في المئة منذ عام 2016 مما أدى إلى انخفاض معدل الخصوبة الإجمالي إلى ما يقارب 1.0، وكانت سياسة الطفل الواحد التي وضعت عام 1979 وفُرضت بوحشية لعقود من الزمان من نوع الأخطاء التي لا يمكن إلا لنظام استبدادي أن يرتكبها، والآن أصبح الملايين من الرجال الصينيين من دون شريكات، ومنذ انتهاء السياسة عام 2016 حاولت الدولة ترهيب النساء لإنجاب الأطفال وتحويل حقوق المرأة إلى حملة من أجل الإنجاب، وهو دليل آخر على حال الذعر في بكين.
وهناك تناقض آخر ينبع من التعايش غير المستقر بين الرأسمالية والشيوعية الاستبدادية، فقد تبين أن شي ماركسي متشدد، ولقد شهد العصر الذهبي للنمو الذي قاده القطاع الخاص في الصين تباطؤاً كبيراً بسبب قلق الحزب الشيوعي الصيني من ظهور مصادر بديلة للسلطة، وكانت الصين في السابق رائدة عالمياً في الشركات الناشئة المتخصصة في التعليم عبر الإنترنت، ولكن في عام 2021 اتخذت الحكومة إجراءات صارمة ضدها لأنها لم تتمكن من مراقبة محتواها بصورة موثوقة، وقد ضعفت ثقافة ريادة الأعمال التي كانت نابضة بالحياة ذات يوم، وبطريقة موازية كشف سلوك الصين العدواني تجاه الأجانب عن تناقضات أخرى.
في الواقع يدرك شي أن الصين بحاجة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو يسعى إلى استقطاب قادة الشركات من جميع أنحاء العالم، ولكن بعد ذلك تتعرض مكاتب شركة غربية للدهم أو يُعتقل أحد موظفيها الصينيين، ولا عجب أن فجوة الثقة تتسع بين بكين والمستثمرين الأجانب.
وتعاني الصين أيضاً ضعف ثقة شبابها فيها، فقد يكون المواطنون الصينيون الشباب فخورين ببلدهم، بيد أن معدل البطالة الذي بلغ 20 في المئة قوض تفاؤلهم بالمستقبل، والواقع أن الترويج القسري لفكر شي جينبينغ يثير نفورهم وقد دفعهم هذا إلى تبني موقف يُعرف بالعامية بـ “الاستلقاء”، وهو موقف عدواني سلبي [مستتر] يتمثل في التماهي مع النظام من دون إظهار أي ولاء أو حماسة له، وبالتالي فإن الوقت الحالي ليس مناسباً لعزل الشباب الصيني بل للترحيب بهم واستقبالهم للدراسة في الولايات المتحدة، ووفق السفير الأميركي لدى الصين نيكولاس بيرنز فإن النظام الذي يبذل قصارى جهده لترهيب مواطنيه من أجل ثنيهم عن التعامل مع الأميركيين ليس نظاماً واثقاً من نفسه، وفي الحقيقة يُعتبر هذا بمثابة تحفيز للولايات المتحدة لكي تستمر في سعيها إلى تعزيز العلاقات مع الشعب الصيني.
في غضون ذلك ستحتاج واشنطن إلى مواصلة الضغط الاقتصادي على القوى الرجعية، وعليها أن تستمر في عزل روسيا مع التركيز على وقف دعم بكين المتنامي للكرملين، ولكن في المقابل يتعين عليها أن تمتنع عن فرض عقوبات صارمة على الصين لأنها ستكون غير فعالة وضارة، مما يؤدي إلى شل الاقتصاد الأميركي في الوقت نفسه.
هناك تناقض في الصين ينبع من التعايش غير المستقر بين الرأسمالية والشيوعية الاستبدادية
وعلى النقيض من ذلك قد تؤدي العقوبات المحددة الأهداف إلى إبطاء تقدم بكين العسكري والتكنولوجي، في الأقل لفترة من الزمن، أما إيران فهي أكثر هشاشة بكثير، ويتعين على واشنطن ألا تفرج عن الأصول الإيرانية مرة أخرى مثلما فعلت إدارة بايدن كجزء من صفقة لإطلاق خمسة أميركيين مسجونين، ويشار إلى أن الجهود المبذولة لإيجاد معتدلين بين رجال الدين في إيران محكوم عليها بالفشل، وهي تسمح للملالي بالتهرب من مواجهة تناقضات نظامهم غير الشعبي والعدواني وغير الكفء.
ما يتطلبه الأمر
إن هذه الإستراتيجية ستستلزم استثماراً، فالولايات المتحدة تحتاج إلى الحفاظ على قدرات دفاعية كافية لحرمان الصين وروسيا وإيران من تحقيق أهدافها الإستراتيجية، ولقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن نقاط ضعف يجب معالجتها في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، ولا بد من إجراء إصلاحات حاسمة في عملية إعداد موازنة الدفاع التي تُعد غير كافية لهذه المهمة، ويتعين على الكونغرس أن يسعى جاهداً إلى تعزيز عملية التخطيط الإستراتيجي الطويل الأجل في وزارة الدفاع، فضلاً عن قدرتها على التكيف مع التهديدات الناشئة، وإضافة إلى ذلك فعلى الـ “بنتاغون” أن يتعاون مع الكونغرس من أجل تحسين الكفاءة في نفقاته الحالية [تحقيق مزيد من الكفاءة في طريقة استخدام أمواله]، ومن الممكن خفض الكُلف جزئياً من خلال تسريع عمليات الشراء والاستحواذ البطيئة في الـ “بنتاغون” حتى يتسنى للجيش الاستفادة بصورة أفضل من التكنولوجيا المتقدمة الموجودة في القطاع الخاص، وبعيداً من القدرات العسكرية يتعين على الولايات المتحدة أن تعيد بناء العناصر الأخرى في أدواتها الدبلوماسية، مثل العمليات الإعلامية التي ضعفت منذ الحرب الباردة.
واستطراداً فعلى الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات أن تفوز في سباق التسلح التكنولوجي، لأن التقنيات التحويلية ستكون في المستقبل المصدر الأكثر أهمية للقوة الوطنية، والواقع أن المناقشة حول التوازن بين التنظيم والابتكار قد بدأت للتو، ولكن بينما يجب الاعتراف بالسلبيات المحتملة فالأهم في نهاية المطاف هو إطلاق العنان لإمكانات هذه التكنولوجيا لمصلحة المجتمع والأمن القومي، ومن الممكن إبطاء التقدم الصيني ولكن لا يمكن إيقافه تماماً، وستضطر الولايات المتحدة إلى التحرك بسرعة وبذل قصارى جهدها للفوز في هذا السباق، وستدقق الديمقراطيات في هذه التكنولوجيا وتدعو الكونغرس إلى عقد جلسات استماع في شأنها وتناقش تأثيرها علناً، في حين أن الأنظمة الاستبدادية لن تفعل ذلك. ولهذا السبب، من بين أسباب أخرى عدة، ينبغي ألا تنتصر الأنظمة الاستبدادية، والخبر السار هو أنه نظراً إلى سلوك الصين وروسيا، فإن حلفاء الولايات المتحدة أصبحوا على استعداد للإسهام في جهود الدفاع المشترك.
في الحقيقة تعترف بلدان كثيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك أستراليا والفيليبين واليابان بالتهديد، وتبدو عازمة على مواجهته، وبطريقة موازية أصبحت العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية أفضل من أي وقت مضى، وقد أثارت الاتفاقات الأخيرة التي أبرمتها موسكو مع بيونغ يانغ قلق سيول، وينبغي أن تعمل على تعميق تعاونها مع حلفائها الديمقراطيين، أما الهند فهي تتعاون بصورة وثيقة مع الجيش الأميركي وتبرز كقوة أساس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال عضويتها في الحوار الأمني الرباعي المعروف أيضاً باسم “كواد” أو التحالف الرباعي، أي الشراكة الإستراتيجية التي تضم أيضاً أستراليا واليابان والولايات المتحدة، ويبدو أن فيتنام أيضاً على استعداد للإسهام نظراً إلى مخاوفها الإستراتيجية تجاه الصين، وسيكون التحدي هو تحويل طموحات شركاء الولايات المتحدة إلى التزام مستدام بمجرد أن تصبح كلف تعزيز القدرات الدفاعية واضحة.
في أوروبا أدت الحرب في أوكرانيا إلى تحفيز حلف شمال الأطلسي بطرق لم يكن من الممكن تصورها قبل بضعة أعوام، فقد أسهم ضم السويد وفنلندا إلى خاصرة الـ “ناتو” القطبية في إضافة قدرات عسكرية حقيقية والمساعدة في حماية دول البلطيق، وفي الوقت الحالي تشكل مسألة ترتيبات أمن أوكرانيا بعد الحرب مصدر قلق كبير بالنسبة إلى أوروبا، والحل الأبسط هو قبول أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه، على رغم أن المؤسستين تعتمدان إجراءات انضمام قد تستغرق بعض الوقت، والنقطة الأساس تتمثل في أن على موسكو أن تدرك أن التحالف لا ينوي أن يترك مناطق أوروبية بلا حماية أو عرضة للخطر.
واستكمالاً تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى إستراتيجية للتعامل مع الدول غير المنحازة في الجنوب العالمي، وستصر هذه الدول على المرونة الإستراتيجية، لذا ينبغي لواشنطن أن تقاوم الرغبة في إجبار هذه الدول على إظهار نفسها في موقف تثبت فيه ولاءها أو تمتثل لمطالب صارمة، وعليها عوضاً عن ذلك أن تضع سياسات تعالج مخاوف تلك الدول، والأهم أن الولايات المتحدة تحتاج إلى بديل ملموس لمبادرة “الحزام والطريق”، البرنامج الضخم الذي تنفذه الصين في مجال البنية التحتية العالمية، وكثيراً ما يُنظر إلى مبادرة “الحزام والطريق” على أنها تساعد الصين في كسب القلوب والعقول، ولكنها في الواقع لا تكسب شيئاً، فالدول المشاركة فيها تشعر بالإحباط إزاء الفساد ورداءة معايير السلامة والعمل وعدم الاستدامة المالية في المشاريع المرتبطة بها.
وفي حين أن المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وغيرها أصغر حجماً، فهي خلافاً للمساعدات الصينية، تتمتع بميزة اجتذاب استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة من القطاع الخاص تتجاوز المبالغ التي توافرها “مبادرة الحزام والطريق”، ولكن لا يمكنك التغلب على مبادرة راسخة من دون تقديم بديل، ولن تنجح إستراتيجية الولايات المتحدة التي لا تُبدي أي اهتمام بمنطقة ما إلى أن تظهر الصين فيها، إذاً يتعين على واشنطن أن تثبت التزامها المستدام مع بلدان الجنوب العالمي في شأن القضايا التي تهم هذه البلدان، على غرار التنمية الاقتصادية والأمن وتغير المناخ.
أي اتجاه ستسلكه أميركا؟
لم تتسم حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية بالصراع بين القوى العظمى والنظام الدولي الضعيف وحسب، بل أيضاً بموجة متصاعدة من الشعبوية والانعزالية، وهذا ينطبق أيضاً على العصر الحالي، والسؤال الرئيس الذي يهيمن على النظام الدولي اليوم هو: أين تقف أميركا؟
لقد ظهر أكبر اختلاف بين النصف الأول من القرن الـ 20 والنصف الثاني منه في دخول واشنطن المستمر والهادف على الصعيد الدولي، فبعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة دولة واثقة من نفسها وشهدت طفرة في أعداد المواليد ونمواً في الطبقة المتوسطة، وتفاؤلاً غير محدود في شأن المستقبل، وقد وفر النضال ضد الشيوعية وحدة بين الحزبين حتى وإن كانت هناك خلافات في بعض الأحيان حول سياسات محددة، واتفق معظم الناس مع الرئيس جون إف. كينيدي على أن بلادهم كانت مستعدة “لدفع أي ثمن وتحمل أي عبء” في مسيرة الدفاع عن الحرية، لكن الولايات المتحدة أصبحت بلاداً مختلفة اليوم ومنهكة بعد ثمانية عقود من الزعامة الدولية، شهد جزء منها جهوداً ناجحة ومشكورة، في حين اعتُبر الجزء الآخر فاشلاً، والشعب الأميركي تغير أيضاً فقد أصبح أقل ثقة في مؤسساته وفي قابلية تحقيق الحلم الأميركي، وقد لعبت أعوام من الخطاب المثير للانقسام والدردشة الفارغة عبر الإنترنت [التي يجري فيها التعبير عن مواقف متشابهة ومتكررة داخل نظام مغلق ومعزول عن النقد] حتى بين الشباب الأكثر تعلماً، وعدم إدراك تعقيدات التاريخ، دوراً في إضعاف الشعور بالقيم المشتركة بين الأميركيين، وتتحمل المؤسسات الثقافية النخبوية جزءاً كبيراً من اللوم عن هذه المشكلة، فقد كافأت أولئك الذين يهاجمون الولايات المتحدة وسخرت من أولئك الذين يشيدون بفضائلها، ومن أجل استعادة ثقة الأميركيين في مؤسساتهم وفي بعضهم بعضاً، يتعين على المدارس والكليات أن تغير مناهجها الدراسية بحيث تقدم رؤية أكثر توازناً للتاريخ الأميركي، وعوضاً عن خلق مناخ يعزز الآراء القائمة يتعين على هذه المؤسسات وغيرها أن تشجع على إقامة نقاش صحي يشجع تبادل الأفكار المتنافسة، ومع ذلك لا يزال الحمض النووي للقوى الكبرى راسخاً بقوة في الجينوم الأميركي، فالأميركيون يحملون فكرتين متناقضتين في وقت واحد، فجانب من عقلهم ينظر إلى العالم ويعتقد أن الولايات المتحدة فعلت ما يكفي، ويقول “لقد حان الوقت الآن لتتولى جهة أخرى هذا الدور”، أما الجانب الثاني فينظر إلى الخارج ويرى دولة كبيرة تحاول سحق دولة أصغر، أو أطفالاً يختنقون بغاز الأعصاب، أو جماعة إرهابية تقطع رأس صحافي، فيقول “يتعين علينا أن نتصرف”، ويمكن للرئيس أن يؤيد أياً من هذين المنظورين المختلفين.
إن “فرسان الرؤيا الأربعة” الجدد [في استعارة من رؤيا يوحنا في الإنجيل] الذين سيقودون العالم إلى يوم القيامة، والمتمثلين في الشعبوية والنزعة القومية والانعزالية والحمائية، غالباً ما يبرزون جنباً إلى جنب، وهم يشكلون تحدياً للمعايير السياسية السائدة، ووحدها الولايات المتحدة قادرة على مواجهة تقدم أولئك الفرسان ومقاومة إغراء العودة للأفكار والسياسات القديمة والرجعية، والتركيز عوضاً عن ذلك على تطوير حلول جديدة، ولكن من أجل حشد دعم للسياسة الخارجية الأممية يحتاج الرئيس إلى رسم صورة واضحة لما سيكون عليه العالم من دون مشاركة أميركية نشطة، وفي مثل هذا العالم سينتقل بوتين وشي، بعد أن يهزما أوكرانيا، إلى غزوهما التالي، وستحتفل إيران بانسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وستعزز نظامها غير الشرعي من خلال التوسع الخارجي عبر وكلائها، وستشن “حماس” و”حزب الله” مزيداً من الحروب، وستتبدد الآمال في اتفاق سلام بين دول الخليج العربية وإسرائيل، وسيضعف الاقتصاد الدولي مما يضعف النمو الأميركي، وستصبح المياه الدولية محل نزاع مع توقف حركة البضائع بسبب القرصنة وغيرها من الحوادث في البحر.
يتعين على القادة الأميركيين أن يذكّروا الرأي العام بأن الولايات المتحدة المترددة انجرفت مراراً وتكراراً إلى الصراعات في أعوام 1917 و1941 و2001، ولم تكن العزلة قط هي الحل لأمن البلاد أو ازدهارها، وإضافة إلى ذلك يتعين على القائد التأكيد أن الولايات المتحدة في وضع جيد يسمح لها بصياغة مستقبل مختلف، فالقطاع الخاص الذي لا ينفد إبداعه قادر على الابتكار المستمر، وتتمتع الولايات المتحدة بإمداد فريد ومستقر من موارد الطاقة الممتدة من كندا إلى المكسيك، قادر على دعمها خلال التحول التدريجي إلى مصادر طاقة جديدة على مدى الأعوام المقبلة، ولديها حلفاء أكثر من أي قوة عظمى أخرى في التاريخ وصداقات قوية أيضاً، ولا يزال الناس في جميع أنحاء العالم الذين يسعون إلى حياة أفضل يحلمون بأن يصبحوا أميركيين، وإذا تمكنت الولايات المتحدة من استجماع الإرادة للتعامل مع مشكلة الهجرة فلن تعاني الكارثة الديموغرافية التي تواجه معظم دول العالم المتقدم، وقد لا يكون الدور العالمي الأميركي شبيهاً بما كان عليه على مدى الـ 80 عاماً الماضية، ومن المرجح أن تختار واشنطن مشاركاتها بعناية أكبر، وإذا كان الردع قوياً فقد يكون ذلك كافياً، وسيتعين على الحلفاء تحمل مزيد من كُلف الدفاع عن أنفسهم، وستكون اتفاقات التجارة أقل طموحاً وعالمية وأكثر إقليمية وانتقائية.
واستطراداً يتعين على الأمميين [الذين يعتنقون مبدأ سياسياً يتجاوز القومية ويدعو إلى تعاون سياسي أو اقتصادي أكبر بين الأمم والشعب] أن يعترفوا بأنهم تجاهلوا الأميركيين، مثل عمال مناجم الفحم والصلب العاطلين من العمل، والذين خسروا عملهم مع انتقال الوظائف الجيدة إلى الخارج.
في الواقع لم يتقبل المنسيون الحجة القائلة بأنهم يجب أن يلتزموا الصمت ويرضوا بالسلع الصينية الرخيصة، وفي هذه المرة لا يمكن قبول مزيد من الشعارات والوعود الفارغة حول مزايا العولمة للجميع، ولا بد من بذل جهد حقيقي لتزويد الناس بالتعليم والمهارات والتدريب المهني، وهذه المهمة تصبح أكثر إلحاحاً نظراً إلى أن التقدم التكنولوجي سينزل عقاباً قاسياً بأولئك الذين لا يستطيعون مواكبة التقدم، وأولئك الذين يدافعون عن المشاركة الدولية سيحتاجون إلى إعادة صياغة ما تعنيه هذه الكلمة.
إن 80 عاماً من النزعة الأميركية الأممية هي تشبيه لا يتناسب تماماً مع الظروف الحالية، ومع ذلك فإذا كان القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20 قد علما الأميركيين أي درس، فهو أن القوى العظمى الأخرى لا تنشغل بشؤونها الخاصة وحسب، بل إنها تسعى أيضاً إلى تشكيل النظام العالمي على أهوائها، وسيتحدد المستقبل إما من خلال تحالف بين الدول الديمقراطية التي تتبنى سياسات السوق الحرة، أو من خلال القوى الرجعية التي تعود لأيام الغزو الإقليمي في الخارج والممارسات الاستبدادية في الداخل، وببساطة لا يوجد أي خيار آخر.