غزة بين التدمير والحرب النفسية
في المجتمع الإسرائيلي، تتجلى حالة من الخوف وانعدام الأمن، خاصة بعد هجمات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. فصورة المقاتلين الفلسطينيين الذين أسروا مستوطنين اسرائيليين في غلاف غزة ما زالت تسيطر على الذاكرة الجمعية للإسرائيليين.
في محاضرة ألقيتها في إحدى الأكاديميات العسكرية نهاية الأسبوع الماضي، أوضحت أن العمليات العسكرية الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة تعكس استراتيجية تتجاوز العمليات الميدانية التقليدية إلى هدف أعمق وأشمل يتمثل في إعادة تشكيل المشهدين المادي والنفسي ليس لغزة فحسب بل وللمنطقة بشكل عام. فعلى الرغم من التصريحات التي تشير إلى رغبة إسرائيل في الوصول إلى وقف لإطلاق النار، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى نوايا مختلفة تماما وما التقارير الأممية والدولية عن حجم الدمار في قطاع غزة وكلفه ومدة إعادة الإعمار سوى دلائل على مستقبل هذا القطاع الذي تريده إسرائيل.
يتجلى هذا من خلال التدمير الممنهج للبنية التحتية والمناطق السكنية، إلى جانب تسريب خطط استيطان جديدة للقطاع، وهو ما يشير إلى سعي إسرائيل لتغيير ديموغرافية قطاع غزة وخلق بيئة تذكي الحرب النفسية تتعبها سيناريوهات مماثلة للضعفة الغربية بعد الانتهاء من هذا القطاع.
التقارير التي اطلعت عليها لجان الأمم المتحدة التي تستعد في ١٠ سبتمبر لاستضافة اجتماعات الجمعية العمومية في دورتها الـ ٧٩ في نيويورك تشير إلى أن العامل الديموغرافي سيلعب دورا في مستقبل قطاع غزة ومستقبل الضفة الغربية بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بتسوية مساحات واسعة بالأرض من محور “نتساريم” إلى أطراف أحياء مثل “تل الهوى” و”الزيتون” و”الشيخ عجلين”. فهذا التدمير الممنهج الذي شمل الالاف من المباني والبنى التحتية، يبدو خطوة محسوبة تهدف إلى جعل أجزاء من غزة غير صالحة للسكن، ما يؤدي إلى تغيير ديموغرافي وجغرافي.
قبل أيام، نشرت وسائل اعلام إسرائيلية ومنها تقارير عبر صحيفة هآرتس تفيد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يعتزم إعادة بناء مستوطنات في قطاع غزة حيث يتم تقسيم غزة إلى خمسة جيوب مع إعادة إنشاء حاجز “أبو هولي” الذي يفصل بين مناطق رئيسة في القطاع مع تحويل شمال قطاع غزة إلى حدائق ومنتجعات سياحية ترتبط بعسقلان وأشدود وهذا يعني تطبيق الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)عبر غزة الذي اقترحته مجموعة السبع (G7).
اقرأ ايضا| اصطياد الإنترنت على شواطئ غزة!
فعلى الرغم من ذلك، إلا أن الرأي العام الإسرائيلي لا يدعم بشكل قاطع إعادة بناء مستوطنات في غزة. فقد أظهرت سلسلة من استطلاعات الرأي التي أجرتها الجامعة العبرية بعد عملية “طوفان الأقصى” أن ٥٤٪ من الإسرائيليين يعارضون فكرة إعادة التوطين في غزة، بينما يؤيدها ٣٥٪ فقط فيما امتنع ١١٪ عن التصويت. هذا التردد يعكس مخاوف المستوطنين الإسرائيليين، خاصةً في المناطق الشمالية والجنوبية من إسرائيل. فالكثير منهم يرفض العودة إلى المناطق المحاذية لغزة أو شمال إسرائيل.
في المجتمع الإسرائيلي، تتجلى حالة من الخوف وانعدام الأمن، خاصة بعد هجمات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. فصورة المقاتلين الفلسطينيين الذين أسروا مستوطنين اسرائيليين في غلاف غزة ما زالت تسيطر على الذاكرة الجمعية للإسرائيليين، ما يسبب قلقا واسعا لديهم. هذه المخاوف تدفع بمقترحات متزايدة، من بينها إعادة احتلال غزة أو ترحيل الفلسطينيين، إلى خلق بيئات عدائية تمنع عودة الفلسطينيين.
ومع ذلك، فإن الجهود العسكرية التي تبذلها إسرائيل لاستعادة الثقة بين المستوطنين وإعادتهم إلى المناطق “المغلقة” قد لا تكون كافية لإقناعهم بالانتقال إلى قلب غزة. وفي الختام، الاستراتيجية الإسرائيلية في غزة تعكس مزيجا من العمليات العسكرية العدوانية والحرب النفسية، بهدف إعادة تشكيل البيئة المادية والنفسية للقطاع وسكانه مع تدمير البنية التحتية ونشر خطط الاستيطان وهو ما يعقد احتمالات السلام والاستقرار في المنطقة.