في يوليو الماضي احتجزت قوة عسكرية قوامها ثلاث عناصر مسلحة الصحفي صالح محمد عبد الله بالقرب من سكنه بمحلية كرري وحققت معه لأكثر من أربع ساعات، بعد أن أجبرته على فتح هاتفه.
وإثر كشف هويته الصحفية دونت الجهات العسكرية الموجودة ضمن مناطق سيطرة الجيش السوداني بلاغاً يتهم صالح بالضلوع في تهديد الأمن الوطني، لكنها أفرجت عنه لاحقاً مع مطالبته بمغادرة المنطقة، متوعدة بإجراءات عقابية إذا بقي في المحلية.
قبلها بفترة قليلة كان فصيل عسكري آخر يتبع قوات الدعم السريع اقتحم منزل الصحفي عمر هنري بحي مايو، جنوب العاصمة السودانية، الخرطوم، واقتاده قسراً، وهو مغلق العينين، إلى مكان مجهول متهماً إياه بالتخابر مع الجيش السوداني.
ونهبت القوة هاتف هنري وصادرت أمواله بعد إجباره على إعطائهم كلمة السر الخاصة بتطبيق معاملاته المصرفية، كما استولت على صفحته الشخصية بتطبيق فيسبوك واستباحتها بشكل كامل.
في اليوم التالي أسعفت مجموعة من المارة الصحفي هنري بعد العثور عليه وهو في حالة إغماء كامل في إحدى طرقات الخرطوم مع ندوب وإصابات في أجزاء متفرقة من جسده.
لكن معاناة الصحفيين صالح وعمر تتضاءل إزاء النهاية المأساوية لحياة زميلهم بصحيفة الجريدة السودانية، معاوية عبدالرازق، الذي اغتيل في يونيو الماضي بعد الهجوم عليه في منزله بمنطقة الدروشاب بالخرطوم بحري، رفقة ثلاثة من أبناء الحي كانوا معه.
معاوية كان قد تم اعتقاله في وقت سابق واحتجز لأيام من ذات الجهة بتهمة التخابر مع الجيش.
وفي يونيو “فقد الصحفي الشاب والناشط الإعلامي المستقل إبراهيم عبدالله حياته وهو يؤدي واجبه المهني، عندما سقطت قذيفة على منزله في مدينة الفاشر، إبراهيم، الذي كان معروفا باسم (إبراهيم شوتايم) ويحظى بشعبية كبيرة بين متابعيه، كان يوثق المعاناة التي يعيشها الناس في المنطقة، رحيله المفاجئ فجع الكثيرين وأكد مدى الخطر الذي يواجه الصحفيون في السودان”.
وخلال 500 يوم من الصراع تروي أحداث الحرب السودانية أنه تم إزهاق حياة وإصابة العشرات من الصحفيين، مثلما انتهكت حقوقهم وحرياتهم وسلبت ممتلكاتهم وحقهم في التعبير، إلى جانب جرائم وتجاوزات أخرى بحقهم وأسرهم.
وكشفت سكرتير الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، إيمان فضل السيد، خلال مقابلة مع “جسور بوست”، أن العدد الكلي للاغتيالات وسط العاملين بالحقل الإعلامي خلال خمسمئة يوم من عمر القتال بلغ 10 أفراد، من بينهم صحفيتان، مشيرة إلى أن التهديدات التي تلاحق العاملين بالمهنة ظلت منتظمة وثابتة.
ويعضد من إفادة إيمان زميلها وعضو نقابة الصحفيين السودانيين، عمرو شعبان، الذي يسرد بنبرة يخالطها الأسى كيف أودت قذيفة طائشة بحياة زميلته الصحفية سماهر عبدالشافع التي تعمل بإذاعة زالنجي، في ولاية وسط دارفور، بعد مغادرتها منزلها في مناطق النزاع ملتمسة الأمان في معسكر للنازحين، فلاحقتها قذيفة وأودت بحياتها.
ويقول عمرو في إفادته لـ”جسور بوست”: “حالما تبرز هويتك الصحفية أو تعرف بنفسك إعلامياً ستصنف مباشرة ضمن الأعداء، باعتبارك قادراً على كشف الانتهاكات والتجاوزات والمآسي التي يمارسها الطرفان على المدنيين من جماهير شعبنا”.
ويسترسل شعبان في شرح وجهة نظره معتبراً أن الأطراف المتناحرة ترغب في إبقاء جرائمها بعيدة عن الجمهور، مشدداً على أن الانتهاكات لن تتوقف في ظل عجز منظمات حماية الصحفيين عن التدخل المباشر والتصريح بالانتهاكات، وممارسة الضغط على المتقاتلين.
حقوق رقمية ضائعة
لا يتعلق أمر الحقوق الصحفية بالانتهاكات المباشرة من قتل واعتقال وسلب فحسب، إذ إن تحديات جمة أخرى تكتنف عمل الصحفيين الذين يسعون إلى تغطية الأحداث ونقل المعلومات إلى الرأي العام المحلي والدولي.
وفي ظل واقع الاتصالات الحالي ورداءة شبكات الهواتف النقالة والإنترنت في معظم ولايات السودان، وفي ظل العوائق والعقبات التي تضعها قوات الدعم السريع والجيش تبدو مهمة الصحفيين أقرب لما يصفها الباحث المهتم بالحقوق الرقمية، الصحفي خطاب حمد بالمهمة “شبه المستحيلة”.
وبحسب ما قاله “خطاب محمد”، لـ”جسور بوست”، فإنه من الصعب مقارعة إعلام الحرب وتقديم الروايات الحقيقية التي تدحض السرديات البديلة والمؤيدة لوجهات نظر الأطراف المتصارعة.
ومضى مسترسلاً: “أعتقد أنه وخلال 500 يوم من النزاع دخلت العديد من المناطق الحربية في حالة الإظلام والتعتيم الإعلامي، ما أدى إلى خلق تحديات جديدة وعديدة في عمليات الرصد والتوثيق والوصول إلى المعلومات الدقيقة بالسرعة المطلوبة، ولهذا عمدت الجهات المتنازعة إلى إغراق المشهد بالمعلومات المضللة، وهي البوابة الرئيسية التي تنسل منها البروباغاندا وحروب الميديا الموازية”، وهي معارك -بحسبه- “لا تقل ضراوة عن المعارك على الأرض”.
اختفاء قسري واعتقال واحتجاز
تقول إيمان في إفادتها لـ”جسور بوست” إن مجمل الانتهاكات التي رصدتها سكرتاريتها بالنقابة خلال الخمسمئة يوم الماضية والتي تكبدها الصحفيون، بحكم عملهم أو انتمائهم لمهنة الصحافة، بلغت (438) حالة، مصنفة وموثقة بحسب طبيعة كل انتهاك، مشيرة إلى تعرض صحفيين وصحفيات إلى إطلاق نار في الطرقات أو في أماكن عملهم أو إلى القصف في مساكنهم وهو ما عرض حياتهم إلى الخطر وأودى بحياة أفراد من عائلاتهم وتدمير وإتلاف منازلهم.
أما العدد الكلي لحالات الاعتقال والاحتجاز، بحسب إيمان، فقد راوح عدد (52) حالة، من بينهم (7) صحفيات، هذا بخلاف بلاغات النشر البالغ عددها (6) بلاغات، وتم تدوينها في مواجهة صحفيين، وهي كما تقول إيمان، تستخدم كوسيلة لترهيب الصحفيين وإسكات أصواتهم.
وعيد وتهديد
في أبريل الماضي، وعلى خلفية نشاطها الإنساني في تقديم الخدمات للمواطنين الفارين من جحيم الحرب إلى مراكز الإيواء بولاية كسلا، شرقي السودان، تلقت الصحفية المستقلة سمر سليمان، تهديدات عبر رسائل نصية وصوتية على هاتفها الجوال، من قبل جهات غير معلومة، خلال الرسائل -تقول سمر- جرى اتهامها بأنها “خلايا نائمة” لقوات الدعم السريع.
وطبقا لسكرتيرة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين فإن العدد الكلي للتهديدات الشخصية التي تلقاها الصحفيون والصحفيات بلغ (55) حالة، من بينها (24) حالة موجهة لصحفيات.
ويعود الباحث خطاب للتعليق على الجزئية بقوله إن الممارسات من شاكلة التهديدات عاليها تعرض دقة التحقيقات الصحفية للخطر وتضع سلامة الصحفيين على المحك وتعيق قدرتهم من العمل بحرية، وبالتالي حرية الصحافة مهددة خلال النزاع الحالي.
واسترسل قائلا، إن هذه الظروف مجتمعة حدت من إمكانيات الصحفيين للحصول على معلومات موثوقة من مصادر معتمدة، فأصبحوا يعتمدون على التسريبات وعلى المصادر في تغطية الأحداث ما يزيد من صعوبة التحقق من صحة المعلومات، ويجعل من قانون الحصول على المعلومات الخاص بالعام 2015 قانوناً غير ذي جدوى.
واتفق عمرو مع خطاب بقوله، إن الأرقام التي تم توثيقها تعكس فداحة الاستهداف وحجمه لصالح التعتيم والإظلام ما يصب في مصلحة الغرف الإعلامية للطرفين المتحاربين.
“أضف الى ذلك”، والحديث ما زال على لسان عمرو، “عجز الصحفيين في الوصول لمناطق الأحداث، باعتبار أن مفهوم المراسل الحربي غائب تماماً في ثقافة العمل الصحفي السوداني، مثل ما يغيب الوعي، لدى الطرفين المتقاتلين، بأهمية ودور الصحفيين في الميدان لنقل الوقائع والأحداث ورصد الانتهاكات”.
يشار إلى أن الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تسببت في توقف 26 صحيفة ورقية عن الصدور و10 محطات إذاعية كما توقفت ست محطات تلفزيونية بولاية الخرطوم.
وتعرضت مقار أكثر من 29 مؤسسة إعلامية ومكتب صحفي للاستباحة والتدمير الكامل بالإضافة لفقدان مئات الصحفيين وظائفهم ومصادر دخلهم منذ اندلاع الحرب، وهي ظروف تصفها نقابة الصحفيين بأنها قد تكون “الأسوأ على الإطلاق خلال تاريخ الصحافة في البلاد الممتد لأكثر من قرن”، كونها -كما تقول إيمان- ظروفاً تشجع على تزايد الانتهاكات وتراجع التغطيات المهنية، لصالح خطاب الحرب والكراهية والتضليل، الذي يفتت الوحدة المجتمعية ويفتح الباب أمام سيناريوهات غاية في القتامة.