لا هدنة في غزة إلا مقابل «تثبيت الاحتلال»!
هل أدركت واشنطن الأهداف البعيدة المدى لشروط نتنياهو، وهل أقنعتها حججه لعدم إنهاء الحرب وعدم الانسحاب من المحورين فوافقت عليها وقرّرت دعمها؟ إذاً فهي أقرّت لإسرائيل بأن "احتلال قطاع غزّة" مسألة مبرّرة "أمنياً".
جاء الردّ “الأولي” لـ”حزب إيران/ حزب الله”، انتقاماً لاغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، صباح يوم استئناف مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى في القاهرة، بعد جولة الدوحة التي انتهت إلى إشكالات عدّة بسبب مقترح أميركي “جديد” يلبّي شروط إسرائيل.
وما لبثت “حماس” أن رفضته لأنه عدّل “مقترح بايدن” الذي سبق للحركة أن وافقت عليه. والواقع أن المقترح الجديد لاقى أيضاً اعتراضاً من الوسيطين المصري والقطري، وزادت التعقيدات مع استمرار إسرائيل في ارتكاب المجازر اليومية في قطاع غزّة، وبعد لقاء بنيامين نتنياهو وأنطوني بلينكن وإعلان الأخير “موافقة إسرائيل على المقترح الجديد ويبقى أن توافق عليه حماس”، ما استدعى ردوداً إسرائيلية غير حكومية بأن بلينكن “نسف صفقة استعادة الرهائن”.
لكنه استدعى كذلك “توضيحات” من الخارجية الأميركية فُهم منها أن نتنياهو خدع الوزير، أو أن الأخير أخطأ وكشف حقيقة الموقف الأميركي. وأياً تكن التفسيرات فإن واشنطن اضطرّت لتعديل مقترحها ليصبح مقبولاً من القاهرة التي تصرّ على انسحاب إسرائيلي من “محور فيلادلفيا”، علماً بأن عُقداً أخرى لا تزال تهدّد إبرام الاتفاق.
الردّ الذي بدأه “حزب إيران” اللبناني قد يتواصل إلى أن يعلن انتهاء ثأره، وأظهرت الغارات الاستباقية وحجم الردّ على الردّ مدى استعدادات إسرائيل، وكذلك سرعة التفاعل الأميركي في توقيت ليلي متأخر. في المقابل، لا يزال مفترضاً أن إيران نفسها ستردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة زعيم “حماس” وهو في ضيافة “الحرس الثوري”، وقد يكون حان وقت الردّ أخيراً بعدما اعتُبر تأخره “جزءاً من العقاب لإسرائيل”.
لكن كلّ الردود تُدرس وفقاً لقاعدة تجنّب إشعال حرب موسّعة، وهي لن تعطّل المفاوضات التي تريدها الأطراف جميعاً، بما فيهم إيران وإسرائيل. الأولى لأنها ترى “انتصاراً” في وقف إطلاق النار في غزّة يمنع إسرائيل من تحقيق الأهداف التي حدّدتها للحرب، والثانية لأنها أنجزت معظم ما أرادته تقتيلاً وتدميراً وتجويعاً، أما الشروط التي حدّدها نتنياهو واستخدمها لتأخير أي اتفاق وإفشاله فتتلخّص في الهدف الرئيسي: تثبيت الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزّة… وإذا لم ينتزعه الآن من بايدن فإنه يراهن على دونالد ترامب الذي أيّد قبل أيام فكرة “توسيع مساحة إسرائيل”.
جولة وراء جولة، منذ مطلع السنة، مع فترات انقطاع، انتقلت مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى من تسويف إلى فشل. قيل إن واشنطن أمهلت إسرائيل إلى آخر العام الماضي لإنهاء الحرب، ثم مدّدتها “بضعة أسابيع”، وبعدها لم تعد تشير إلى مهل. رأت أن تنتظر معركة خان يونس لتعيد إطلاق المفاوضات، ثم دخلت في جدل بعضه علني مع إسرائيل حول اجتياح رفح الذي قالت إنه لا بدّ منه لـ”القضاء على حماس”، و”العثور على الرهائن واستعادتهم”، وهما هدفان ثابتان متفق عليهما مع جو بايدن وإدارته.
في الأثناء كانت إسرائيل قد أقامت ممر نتساريم الفاصل بين شمال قطاع غزّة وجنوبه، وخلال تقدمها إلى رفح سيطرت على محور فيلادلفيا/ صلاح الدين المتاخم للحدود المصرية مع غزّة وتعمّدت تدمير منشآت معبر رفح. وبذلك زرعت عُقدتين تحولان دون أي اتفاق تفاوضي، وإذا استطاعت فرضهما فإنها ستحصل على بداية “شرعنة” لاحتلال قطاع غزّة.
اقرأ ايضا| سيناريوهات هدنة غزة
منتصف حزيران (يونيو) بدأ الجيش الإسرائيلي يطلق إشارات إعلامية إلى أنه أنجز ما يمكن أن يقوم به وأنه لا يؤيّد سيطرة دائمة على القطاع، بل يريد الانتقال إلى الشمال لتصفية الحساب مع “حزب إيران” في جنوب لبنان. أي أنه رمى الكرة إلى ملعب المستوى السياسي كي يحدّد وجهة المرحلة التالية.
وعندما استنتج الجيش أن الحكومة تتلكأ راح يبثّ ما حققه في مجال إضعاف “حماس” وغيرها من الفصائل، وصولاً إلى القول إن “حماس فكرة، ولأنها كذلك لا يمكن القضاء عليها”. وبعده تبنّت الإدارة الأميركية هذا التقويم لتبني عليه مساعيَ لاستئناف التفاوض على هدنة، وكانت قد طلبت مقابل سكوتها عن اجتياح رفح أن يقترح بنيامين نتنياهو خطة لوقف إطلاق النار، وهي التي اعتمدها بايدن بنهاية أيار (مايو) وتبنّاها مجلس الأمن في العاشر من حزيران (القرار 2735)، ووافقت عليها “حماس” في 2 تموز (يوليو) لكن التفاوض بشأنها تأخر إلى 15 آب (أغسطس) بمقترح جديد قدمه الوفد الأميركي متبنّياً تعديلات كان قد طلبها نتنياهو مستنداً إلى أن موافقة “حماس” تعني أنها تنازلت عن طلبها الإقرار المسبق بإنهاء الحرب وقبلت أن يخضع للتفاوض خلال الأسابيع الست للمرحلة الأولى من الاتفاق.
ما الذي تغيّر؟ الظاهر في الإعلام يوحي بأن الصيغة الأولى “المقبولة” لعقدتَي محور فيلادلفيا ومحور نتساريم في “مقترح بايدن” لم تعد هي نفسها في المقترح الجديد الذي قدّم في الدوحة ووُصف بأنه “يسدّ الفجوات”. الواقع أن اللحظة الانتخابية الدقيقة أعادت إدارة بايدن و”وساطتها” إلى ثوابت السياسة الأميركية التقليدية، فالقول عندها ما تقوله إسرائيل، خصوصاً أن الطرف الآخر فصائل إيرانية.
هل أدركت واشنطن الأهداف البعيدة المدى لشروط نتنياهو، وهل أقنعتها حججه لعدم إنهاء الحرب وعدم الانسحاب من المحورين فوافقت عليها وقرّرت دعمها؟ إذاً فهي أقرّت لإسرائيل بأن “احتلال قطاع غزّة” مسألة مبرّرة “أمنياً”، بل اختارت اللحظة الأكثر حساسيةً وسوءاً لتمرير هذا الاعتراف، إن لم يكن عن اقتناع فهو يشكل مزايدة مكشوفة على ترامب.
وهكذا يكون نتنياهو قد نجح في استدراجها إلى هدفه – الاحتلال – الذي دأب على الإفصاح عنه، سواء في تصريحاته وخطبه، أم في “الخطّة” التي اقترحها لـ”اليوم التالي” بعد إلحاح واشنطن، أم في صمته وعدم نفيه ما يصرّح به حليفاه سموتريتش وبن غفير. ذاك أن “طوفان الأقصى” أحيا الخطط العسكرية التي وُضعت في المرحلة السابقة واللاحقة للانسحاب من غزّة عام 2005.
لكن محادثات شهور طويلة مع القاهرة أكدت للإسرائيليين، سياسيين وعسكريين، أن مصر لن توافق على وجود إسرائيلي في محور فيلادلفيا لأنه يخالف أولاً اتفاقات ثنائية، ويشكّل ثانياً بداية إضفاء “شرعية عربية” لاحتلال قطاع غزّة، ويُفترض أن هذا مرفوض دولياً وليس عربياً فحسب. ثم إن المفاوضات كشفت ارتباطاً استراتيجياً بين محوري فيلادلفيا ونتساريم، ويبدو أن واشنطن تعرض في مقترحها المعدّل الأخير انسحاباً جزئياً في الأول وشكلياً من الآخر لنيل موافقة صعبة من القاهرة و”حماس”، لكن عليها أن تحصل أيضاً على موافقة نتنياهو!
3 تعليقات