نظرية كارل ماركس.. وصفقات القمح
قب بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ونظرا لظروف العمليات العسكرية أغلقت الموانئ الأوكرانية، ثم توسّطت تركيا بين البلدين، وتم التوصل إلى "صفقة الحبوب".
بين سكب القمح على قضبان السكك الحديدية على الحدود البولندية الأوكرانية ومواطن غزاوي يحاول جمع ما تيسر من الطحين من بين التراب لا يسع المرء سوى أن يتذكر كارل ماركس.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مشهدان الأول من بولندا والثاني من قطاع غزة بفلسطين، الأول يسكب فيه أحد المحتجين، ممن أغلقوا نقاط التفتيش بين بولندا وأوكرانيا، القمح على الأرض، احتجاجا على عبور القمح الرخيص من أوكرانيا إلى أوروبا، بدعوى “العبور” إلى دول ثالثة، بينما يتم بيعه بأرخص الأسعار في أوروبا، ما يضر بمصالح المزارعين من بولندا وسلوفاكيا وهنغاريا، التي عارضت قرار الاتحاد الأوروبي برفع الحظر عن الحبوب الأوكرانية.
في المشهد الثاني يحاول مواطن فلسطيني جمع دقيق مطحون من بين التراب، بينما تبعثر أحد أكياس الدقيق، وهو شحيح في ظل الحرب والقتل والدمار والإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل ضد قطاع غزة.
لكن القضية أعقد من ذلك.. فعقب بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ونظرا لظروف العمليات العسكرية أغلقت الموانئ الأوكرانية، ثم توسّطت تركيا بين البلدين، وتم التوصل إلى “صفقة الحبوب” التي تؤمن بموجبها روسيا فتح الموانئ الأوكرانية لتصدير الحبوب والأسمدة من الجانبين، أوكرانيا وروسيا، وكانت الصفقة برعاية الأمم المتحدة.
كان الجزء الثاني من الصفقة يسمح لروسيا بتصدير أسمدتها ويسمح باستيرادها للمعدات الزراعية وغيرها، إلا أن ذلك الجزء ظل محل شد وجذب، ولم ينفذ، فالموانئ مغلقة، والبنوك الروسية معزولة عن نظام “سويفت”، ولا تستطيع روسيا التصدير، بينما تصدر أوكرانيا حبوبها لا إلى إفريقيا والدول المحتاجة كما نصت الصفقة، وإنما إلى أوروبا، حيث الأسعار مرتفعة، والأموال حاضرة، والـ “سويفت” مفتوح على مصراعيه.
حذرت روسيا مرارا وتكرارا من أن الجزء الروسي من الصفقة لا يتم تنفيذه، وهددت بالخروج من الصفقة، ثم خرجت. فلم يتبق لأوكرانيا سوى الطرق البرية، عن طريق حدودها من بولندا الصديقة الشقيقة التي لا تضن على أوكرانيا بالأسلحة والعتاد والأموال. إلا أن الحبوب التي يفترض أنها “عابرة”، كانت تستقر في أوروبا، وتخلق وضعا غير مقبول بالمرة للمزارعين البولنديين، فقامت الاحتجاجات والمظاهرات ولم تنفض حتى وقت كتابة هذه السطور.
أعود للمشهدين اللذين دفعا بي دفعا نحو تحليل المفكر والفيلسوف الألماني كارل ماركس لمشكلة الاقتصاد الرأسمالي الذي يراها ماركس في “غزارة الإنتاج وسوء التوزيع”. وبرغم أن الحديث لم يعد يدور هنا عن أي “اشتراكية” أو “شيوعية” لا سمح الله، إلا أن المشهدين يدعوان للتأمل في مدى تعقيد وتشابك لا الأزمة الأوكرانية فحسب، وإنما المشهد العالمي برمته، في ظل أفول نظام القطب الواحد لصالح التعددية القطبية، وتداعيات هذا الزلزال.
فلا يمكننا في هذين المشهدين أن نقف ضد المحتج البولندي الذي يجري على قوت يومه، مدافعا عن رزقه ومصلحته الشخصية المباشرة، فيسكب القمح على أراض أوروبية، ولا في صف المزارع الأوكراني “المدلل”، الذي أتيحت له، بفضل قرارات الاتحاد الأوروبي، والتسهيلات من جانب نظام كييف، أن يستغل الموقف لصالحه، ولا بإمكاننا أن نقف في صف أي من قادة ودول أوروبا التي فقدت الحد الأدنى من الإرادة السياسية لتقف أمام الولايات المتحدة بينما كانت تزحزح على مدار خمسة وثلاثين عاما الخطوط الحمراء للأمن القومي الروسي من جدار برلين عام 1989، وحتى حدود أوكرانيا في 2014، متجاهلين طوال عقود التحذيرات الروسية بمغبة ما يحدث من تمدد لـ “الناتو” نحو الحدود الغربية لروسيا.
إلا أن هذين المشهدين ليسا المشهدان الوحيدان، وغيرهما ملايين المشاهد التي لا نعلم عنها شيئا والتي تؤكد مقولة العجوز كارل ماركس بشأن “غزارة الإنتاج وسوء التوزيع”.
ألا تجوز إذن الرحمة على العم كارل ماركس؟