متى يلتقي فرقاء ليبيا في “مربوعة” واحدة
كل من يمارس السلطة سواء في غرب البلاد أو في شرقها، يعتقد أن بإمكانه أن يكون نسخة ثانية من القذافي
سيكون من الصعب التعامل مع الأزمة الليبية وفق المعايير السياسية العلمية، أو وفق شروط الدبلوماسية المتعارف عليها بين دول العالم. إذا كان يجوز أن نعتبر تلك الأزمة مرضا فمن المؤكد أن الطب الحديث غير قادر على إيجاد العلاج المناسب الذي يمكن أن يقاومه. ربما سيكون من الأفضل الاستعانة بالطب التقليدي.
من أسباب تشكل تحالف عالمي واسع ضد النظام الجماهيري بعد أحداث 2011، أن هناك دولا أصابها اليأس من إيجاد طريقة مناسبة للتعامل معه. كان معمر القذافي من ذلك النوع من الرجال الذي يعتقد أنه قادر على الضحك على الجميع، والذي لا يرى مانعا في أن يقدم الوعود ثم يتراجع عنها، كما حصل مع فرنسا بعد الاتفاق الموقع مع الرئيس نيكولا ساركوزي في العاشر من ديسمبر 2007 على شراء 14 طائرة “رافال” و35 مروحية ومعدات عسكرية أخرى تزيد قيمتها عن 5 مليارات يورو. في العام 2010 اتصل ساركوزي بالعقيد ليطلب منه إتمام الصفقة، إلا أن القذافي اشترط أن تقوم فرنسا بإصلاح ترسانة المقاتلات الفرنسية من طراز “ميراج ” التي بحوزة ليبيا دون مقابل. وكذلك إصلاح بعض الأسلحة القديمة في ليبيا وإعادة بيعها لباكستان.
أشارت تقارير إعلامية آنذاك، أن ساركوزي وافق على شروط القذافي، وأرسل إلى ليبيا أكثر من 25 خبيرا فرنسيا مع أسرهم، فاستقبلتهم ووفرت لهم الإقامة الكاملة في طرابلس. وقام بعض مدراء الشركات الليبية – الفرنسية المشتركة بزيارات إلى باكستان لفتح الطريق أمام الأسلحة القديمة أو غير الصالحة التي تم إصلاحها في ليبيا. النتيجة أن ساركوزي نفذ ما عليه من شروط، لكن القذافي غيّر رأيه ورفض صفقة المقاتلات الفرنسية “رافال” معللا موقفه بارتفاع سعرها، ليجد ساركوزي نفسه في وضعية لا يحسد عليها مع شركات السلاح الكبيرة في بلاده. وهو ما رفع من مستويات غضبه من الزعيم الليبي وجعله يبحث عن أول فرصة يثأر فيها لكرامته.
هناك قصة أخرى، ولكنها مع الدوحة هذه المرة، فقد كشف رئيس وزراء ووزير خارجية قطر السابق، حمد بن جاسم آل ثاني، أن مسؤولين ليبيين طلبوا من فرنسا إبان حقبة نيكولا ساركوزي، مبلغ 480 مليون دولار، في نهاية المفاوضات حول إطلاق سراح الممرضات البلغاريات، وقال إن المسؤولين الليبيين زعموا أنهم يريدون إظهار “شيك” بالمبلغ أمام القذافي فقط، ومن ثم فإنهم سيعيدونه دون نقصان بعد 72 ساعة فقط، وإن الجانب الفرنسي طلب من الدوحة توفير هذا المبلغ، لصعوبة إخراجه من باريس، مضيفا أنه كان في إجازة صيفية بمدينة “كان” بفرنسا، وأبدى استعدادا للأمر، وهو ما حدث بالفعل. يؤكد المسؤول القطري أن الجانب الليبي خدع القطريين، وصرف “الشيك” كاملا، ومن ثم بدأ بالتسويف بإعادته، قبل أن يتحدث عن السماح لقطر بالاستثمار في مناطق وأراض ليبية مقابل هذا المبلغ.
الحادثتان المذكورتان، هما فقط نزر قليل مما كان معروفا عن ليبيا قبل 2011، حيث كان الزعيم الراحل يتصرف انطلاقا من قناعته بأنه الأكثر ذكاء والأكثر دهاء، وأنه يستطيع الضحك على الجميع، واللعب على الجميع، وأنه لا يفعل في الأخير إلا ما يلائم أفكاره ويتجاوب مع أهدافه ومصالحه. في 15 أبريل 1986 قامت 66 طائرة أميركية بشن غارة وقصف أهداف في العاصمة الليبية طرابلس، ومنطقة بنغازي، من بينها منزل “الأخ القائد” في باب العزيزية، وتم الإعلان عن سقوط عدد من الضحايا من بينهم هناء ابنة القذافي بالتبني، والتي اهتمت بها وسائل الإعلام، وكتب فيها الشعراء وغنى لها المغنون قصائد وأناشيد الرثاء، لاسيما أنها قضت مغدورة وهي لم تتجاوز 18 شهرا من عمرها، حتى أنها تحولت إلى أيقونة لصمود النظام الجماهيري في وجه الأطماع الإمبريالية الأميركية، وفي 2006 تم إحياء الذكرى العشرين للعدوان، وانتظم بالمناسبة مهرجان هناء للحرية والسلام كتحية لروح الرضيعة الضحية، لكن بمرور الوقت تبين أن هناء لم تمت ولم تصب وإنما هي حية تزرق، وقد أنهت دراستها إلى أن حصلت على درجة الدكتوراه، وفي مارس 2016 أعلن عن زواجها في القاهرة قبل أيام قليلة من الذكرى الثلاثين لمقتلها.
ومهما قيل عن فترة حكم القذافي، فإنه نجح في تحقيق أمرين مهمين هما تكريس سيادة الدولة ووحدة المجتمع، وكانت له رؤية إستراتيجية صحيحة للمنطقة والعالم وخاصة في علاقة بالقارة الأفريقية، إلى أن تمت الإطاحة بنظامه في العام 2011 من قبل التحالف الدولي، ليرثه على منصة الحكم معارضوه السابقون أو بعض المتسلقين ممن تنكروا لفضله عليهم بعد أن كانوا يدورون في فلكه ومن حول ابنه سيف الإسلام ومشروع “ليبيا الغد”، وكذلك اللصوص الكبار الذين استفادوا من حيز الفساد في نظامه واستولوا على ثروات طائلة استفادوا منها لاحقا في شراء الأصوات وتكوين مراكز نفوذ بهدف الوصول إلى السلطة، وممارسة الفساد من قلبها وليس من هامشها.
ما يحدث اليوم في المشهد الليبي، أن كل من يمارس السلطة سواء في غرب البلاد أو في شرقها، يعتقد أن بإمكانه أن يكون نسخة ثانية من القذافي، فهناك من يراهن على الحكم لمدة 20 عاما قادمة، وهناك من يعتقد أنه سيحكم إلى آخر يوم في حياته وأن أبناءه سيرثونه من بعده، وهناك من يعتقد أنه قادر على الاستمرار في السلطة إلى أجل غير مسمى وأنه مستعد لبيع نصف البلاد من أجل تحقيق هذا الهدف. وانطلاقا من هذا الوضع، فإنه لا أحد يستطيع حل الأزمة أو الخروج بالبلاد من النفق، لاسيما أن الفاعلين السياسيين الأساسيين يمارسون لعبة التذاكي مع المجتمع الدولي، ويتقاسمون الأدوار في التحايل على المجتمع المحلي. ويدفعون الغرب للخوف من الشرق والشرق للحذر من الغرب والجنوب لليأس من الغرب والشرق معا، وكل طرف يستقوي على الطرف الثاني بما يناسبه من القوى الإقليمية والدولية، ليجد المبعوث الأممي عبدالله باتيلي نفسه في موقف لا يحسد عليه كما حدث مع سابقيه ممن وصل كلّ منهم إلى طرابلس وهو يعتقد أنه القادر على حلحلة النزاع بما له من تجارب وما وراءه من دعم وإسناد دوليين، ليغادر المهمة بعد فترة وقد استقال أو أقيل غير مأسوف عليه.
سيكون من الصعب التعامل مع الوضع الحالي في ليبيا بمنطق التحليل السياسي أو القراءة العلمية أو التصور المنطقي لآليات الحل، ولن يجد المجتمع الدولي فائدة من قرارات مجلس الأمن أو لجان الأمم المتحدة، ولا من المؤتمرات أو الملتقيات أو الاجتماعات ولا من التداخلات والتوصيات والملاحظات والزيارات الرسمية وتقارير المبعوثين الخاصين والسفراء المعتمدين، خاصة وأن الفرقاء الأساسين قد نجحوا في نسج شبكة من المصالح والطموحات والحسابات والأدوار من الصعب اختراقها، ولديهم من الثروة ما يساعدهم على إتمام مختلف المساومات أو المقايضات أو الصفقات بالشكل الذي يخدم مساراتهم في تناقضها وتشابكها.
قد يكون الحل الوحيد هو ذلك المستبعد إلى حد الآن: وهو اجتماعهم في “مربوعة” لإنهاء الأزمة حول كؤوس الشاي واللوز بعد مائدة غداء أو عشاء، طبعا بعد أن يحدد كل طرف ما يشاء من ضمانات ويحصل على ذلك بتوافق المجتمعين.