أفريقيا

«صال».. وأزمة الحكم في السنغال

تشير قراءات في المشهد السياسي الحالي في السنغال إلى أن الأسباب الكامنة وراء قرار إرجاء الانتخابات ترجع إلى رغبة الرئيس صال في الحيلولة دون وصول فاي مرشح التحالف المؤيد لسونكو.

أثار إصدار الرئيس السنغالي ماكي صال مرسوماً رئاسياً يؤجل بمقتضاه الانتخابات الرئاسية من 25 شباط (فبراير) الجاري حتى 15 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، الكثير من اللغط والجدل محلياً ودولياً، إذ اعتبره بعضهم قراراً صادماً يشي بنزعات سلطوية لدى الرئيس صال، واعتبره آخرون انقلاباً على الدستور هو الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية السنغالية.

ونفى الرئيس صال أن يكون سلطوياً وديكتاتورياً، أو لديه رغبة في ولاية ثالثة، كما أن مقربين منه يعرفون معدن الرجل واستحالة مغامراته ومقامراته بالمسار والنموذج الديموقراطي التعددي الذي انطلق في البلاد عام 1963 على يد “باني السنغال الحديثة” الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور، ناهيك بأنه لن يقبل أن تسجل في صحيفته أنه في عهده جرى الخروج بالبلاد عن سكة الاستقرار ورمى “الاستثناء السنغالي” في منطقة غرب أفريقيا بـ”ثالثة الأثافي”.

في عام 1960 استقلت السنغال عن فرنسا، وعرفت حتى الآن تنظيم 12 اقتراعاً رئاسياً. وتوالى على الرئاسة سنغور (1960-1980) وعبدو ضيوف (1980-2000) وعبد الله واد ( 2000-2012)، فماكي صال (2012-2024).

حينما وصل الرئيس صال إلى سدة الحكم أجرى تعديلاً في مدة الولاية الرئاسية فقلصها من سبع سنوات إلى خمس سنوات. آنذاك قال أصحاب النيات غير الحسنة إن الرئيس صال يريد أن يكسب من خلال ذلك ولاية ثالثة، وأن تقليصه مدة الولاية الرئاسية ليس سوى تحايل على الدستور. وبما أن هذا الأخير لا يسمح إلا بولايتين رئاسيتين، فإن الرئيس يرغب من خلال الدستور المعدل كسب ولاية ثالثة.

ورغم ما أساله ذلك من مداد كثير في السنغال وشغل دنيا الإعلام والناس، فإن ذلك التعديل ينطبق عليه المثل الفرنسي القائل “يا دجاجة .. كل هذا الضجيج من أجل بيضة واحدة”، لأن الرئيس صال لو تمكن من تحقيق مراده بالظفر بولاية ثالثة فإنه لن يربح سوى ثلاث سنوات رئاسية إضافية، وهذا كفيل بأن يخلق له أزمة أكثر من إعطائه قيمة مضافة.

فلو لم يعدل الدستور كان سيقضي مدة 14 عاماً في القصر الرئاسي، أما بعد تعديله وتحديد مدة الولاية الرئاسية الواحدة بخمس سنوات، فإنه كان سيقضي فترة رئاسية مدتها 17 سنة (الولاية الأولى 7 سنوات والولاية الثانية والثالثة خمس سنوات لكل واحدة منهما).

وبالعودة إلى موضوع إرجاء الانتخابات لا بد من طرح السؤال التالي: من يقف وراء التأجيل؟ وهل الرئيس هو عراب ذلك؟ والجواب هو أن مجموعة الحزب الديموقراطي السنغالي بقيادة كريم واد نجل الرئيس السابق عبد الله واد، هي من طلبت الإرجاء.

بدأت الحكاية عندما أعلن المجلس الدستوري في 20 كانون الثاني (يناير) الفائت قائمة نهائية للمرشحين لم تشمل واد بدعوى تأخر وصول ملف تنازله عن الجنسية الفرنسية، الأمر الذي دفع به إلى رفع دعوى ضد المجلس الدستوري متهماً قضاة فيه بالرشوة. وما زاد في تعقيد الأمر هو أن المحكمة الدستورية أبقت ضمن قائمة العشرين المرشح بسيرو ديوماي فاي المقرب من عثمان سونكو، المسجون حالياً بتهم الاغتصاب وإفساد الشباب والتهديد بالقتل، وهي تهم نفاها هذا الأخير، معتبراً إياها محاولة سياسية لإقصائه عن السباق الرئاسي المرتقب، وهو ما نفته الحكومة.

في سياق هذا الوضع الجديد، طلبت جماعة واد إنشاء لجنة تحقيق برلمانية للنظر في مدى صحة الترشيحات التي فحصها وأقرها المجلس الدستوري. واندلعت أزمة بين الجمعية الوطنية (البرلمان) والمجلس الدستوري بشأن مزاعم فساد لقضاة دستوريين، الأمر الذي عبّد الطريق للحكومة السنغالية للدعوة إلى إرجاء الانتخابات، معلنة أنه بناءً على طلب ممثلي الشعب، وتفادياً لقلاقل وأزمات ما بعد الاقتراع، فإن إرجاء الرئيس للانتخابات يبقى”عملاً دستورياً”.

تبعاً لذلك، طرح الرئيس صال فكرة إرجاء الانتخابات على البرلمان الذي صوّت لمصلحة الإرجاء.

وبينما تشير قراءات في المشهد السياسي الحالي في السنغال إلى أن الأسباب الكامنة وراء قرار إرجاء الانتخابات ترجع إلى رغبة الرئيس صال في الحيلولة دون وصول فاي مرشح التحالف المؤيد لسونكو، هناك من يرى أن ما دفع الرئيس إلى إرجاء موعد الانتخابات هو وجود مخاوف لديه من تأثير النزاعات الانتخابية على الاستقرار السياسي في البلاد، وأنه لا يرضيه أن يخرج من السلطة على وقع أزمة سياسية، بخاصة أنه معروف، في أفريقيا بالذات، أن المشاكل والقلاقل تكثر وتتزايد بعد الانتخابات، وبالتالي قرر الإرجاء حتى تهدأ النفوس.

في خضم ذلك، ثمة أسئلة محيرة تطرق أذهان كثيرين، من قبيل: لماذا وضع المسار الدستوري على المحك من أجل كريم واد، الخصم اللدود السابق للرئيس صال؟ وما مدى صحة رهان الرئيس على عدو الأمس كخليفة محتمل له؟ وهل بالفعل الرئيس صال لم يعد مقتنعاً برئيس وزرائه أمادو با الذي اختاره الحزب الحاكم مرشحاً للانتخابات الرئاسية جراء عدم تمتعه بالكاريزما والشعبية الواسعة؟ وهل صحيح أن المرشح الرئاسي أمادو با لعب دوراً في اندلاع الأزمة بين البرلمان والمجلس الدستوري؟ وهل كريم واد هو الوحيد القادر على إلحاق الهزيمة بتيار سونكو الجارف؟

الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه الأسئلة مع ضرورة الإشارة إلى نقطة مهمة هي أن إرجاء الانتخابات سيمكّن كريم واد لا محالة من خوض غمارها لاحقاً، بخاصة بعد تنازله عن جنسيته الفرنسية وصدور مرسوم يؤكد ذلك بتاريخ 16 كانون الثاني الماضي، ذلك أن الدستور السنغالي يمنع ترشح من يحمل جنسية مزدوجة.

الرئيس صال لن يكون نسخة طبق الأصل عن الرئيس الإيفواري الحسن وتارا الذي ترشح لولاية ثالثة وفاز بها، بقدر ما يرغب في السير على خطى سنغور.

في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي استقبل الرئيس الراحل سنغور في القصر الجمهوري في داكار المدير العام آنذاك للمنظمة العالمية للتغذية والزراعة (فاو) أدييك هندريك بويرما (1967-1972)، حول مائدة غداء، من ضمن ما قدم فيها طبق كسكس أمر الرئيس بطبخه حينما علم أن ضمن مرافقي بويرما شاباً مغربياً لم يكن سوى محمد بن عيسى، الذي سيصبح في ما بعد وزيراً للثقافة ثم الخارجية في المملكة المغربية، وكان آنذاك مستشاراً إعلامياً لمنظمة “الفاو” في غرب أفريقيا مقيماً في غانا.

ويروي بن عيسى كيف أن سنغور بدأ يتحدث عن شعب السنغال العظيم، وقال إنه ممتن لهذا الشعب الذي يشكل المسلمون نسبة أكثر من 90 في المئة منه، كونه شرّفه بأن يكون رئيساً للبلد رغم ديانته المسيحية. ومجازاة له على هذا التشريف أشار بسبابته إلى شاب طويل ونحيف مسلم كان يجلس حول مائدة ثانية هو عبده ضيوف الذي كان للتو قد عين رئيساً للوزراء. وأضاف سنغور قائلاً: “هذا الشخص هو  من أعدّه للمستقبل”.

وتحقق ذلك عام 1980 حينما تخلى سنغور عن الرئاسة والسياسة وانغمس أكثر في عالم الشعر والثقافة وإقامة مؤسسة تحمل اسمه. لكن الرئيس ضيوف لم يكن باراً به، إذ حرمه بعد تسلمه السلطة من جميع امتيازات الرؤساء السابقين المتعارف عليها في مختلف دول العالم، وتلك قصة أخرى ليس هنا المجال للحديث عنها.

في منتصف آذار (مارس) 2013 قام الملك محمد السادس بأول زيارة رسمية له للسنغال عقب انتخاب صال رئيساً للبلاد في 2012. وخلال مأدبة عشاء أقامها على شرف ضيفه ذكر الرئيس صال، في خطاب ألقاه بالمناسبة، مدينة أصيلة المغربية المعروفة بموسمها الثقافي الدولي، مرتين.

وأشار في كلمته إلى اهتمام أصيلة بالرئيس سنغور الذي كان دائم التردد عليها، وخصصت له ساحة تحمل اسمه، إضافة إلى إقامتها حفل تكريم رائعاً لـ”أبي السنغال” سنغور، أول رئيس للبلد المستقل.

ومما جاء في خطاب الرئيس صال قوله: “لقد كان الرئيس الراحل ليوبولد سيدار سنغور زائراً منتظماً لمدينتكم الجميلة أصيلة، حيث ساحة تحمل اسمه. ولا أنسى أن سنغور هو الذي خصص مهرجان أصيلة 2006 لإحياء الذكرى المئوية لميلاد الرئيس الشاعر”.

بعد خمس سنوات على ذلك، وبالضبط في أواخر حزيران (يونيو) 2018، شارك الرئيس صال في فعاليات منتدى أصيلة الدولي الـ40، وألقى مداخلة في ندوته الأولى حول “التكامل الأفريقي”. وبمجرد ما وطأت قدماه أرض أصيلة طلب الرئيس صال من الأمين العام للمنتدى محمد بن عيسى أن يسلك الطريق نفسها التي مر منها سنغور. ويقول بن عيسى إن معظم حديثه مع الرئيس كان عن سنغور.

لقد بدا الرئيس صال في أصيلة مفتوناً بسنغور رغم أنه في شبابه كان معارضاً لنظامه بحكم انتمائه إلى اليسار الماوي.

الرئيس صال، مثلما حسم بشجاعة مسألة عدم ترشحه لولاية ثالثة، وأوقف اللغط حولها، قادر على أن يتحلى أيضاً بشجاعة الحسم في موضوع تأجيل الانتخابات.

ويسود اعتقاد راسخ في داكار هذه الأيام أن حكمة الرئيس ستجعله يعلن موعداً قريباً لتنظيم الانتخابات، بخاصة أنه تعهد يوم الجمعة الماضي إجراء الانتخابات الرئاسية “في أقرب وقت”، وذلك بعد إلغاء المجلس الدستوري والبرلمان قراره إرجاء الانتخابات.

هذا الأمر أكده بيان صادر عن مكتب الرئيس مفاده أن الرئيس “يعتزم تنفيذ قرار المجلس “كاملاً” و”سيجري من دون تأخير المشاورات الضرورية لتنظيم الانتخابات الرئاسية في أقرب وقت”، وبذلك يكون الرئيس صال قد قرر دخول التاريخ من بابه الواسع على خطى سلفه سنغور.

حاتم البطيوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى