ربّما بَدَا لكثيرين أنّ اتّهامَ الغرب الثّقافيّ بالصّيرورة رديفاً للغرب السّياسيّ (لئلاّ نقول شريكاً له متواطئاً معه)، اتّهامٌ ظالمٌ لا مسوِّغ له؛ لأنّ الغرب ليس كتلةً واحدةً موحَّدة تجاه القضايا جميعِها: في الدّاخل كما في الخارج.
وقد يُسْتَدَلّ على وجاهة هذا الاستدراك النّقديّ بموقف قسمٍ كبير من مجتمعات الغرب، اليوم، ممّا يجري من عدوانٍ دمويّ على الشّعب الفلسطينيّ في قطاع غزّة وفي الضّفّة الغربيّة. وهذا، قطعاً، قولٌ صحيح لجهة إفاداته الوقائعيّة؛ فلقد شهدت عشرات العواصم والمدن في البلدان الأوروبيّة وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة على عشرات المسيرات الشّعبيّة الحاشدة التي شارك فيها ملايين المواطنين: احتجاجاً على العدوان، وتضامناً مع شعب فلسطين، ومطالبةً بوقف الحرب في شكلٍ بدتْ فيه تلك الحشودُ الشّعبيّة الهائلة في موقعِ من يحتجّ الاحتجاجَ الصّارخ على سياسة حكومته من الحرب وجريمةِ القتل الجماعيّ الوحشيّ، وليس على مَن يقترفها ضدّ أهل غزّة فقط باسم “حقّه” في “الدّفاع” عن نفسه.. من الأطفال والنّساء والعَواجز.
مع أنّ الاستدراك هذا مشروع وينفي عن الغرب، بالتّالي، أن يكون وحدةً واحدةً في وجه خصومه وأعدائه، بدليل انتفاضات الشّارع الهادرة فيه اليوم، إلاّ أنّه ليس يكفي دليلاً يُحْتَجّ به على بُطلان فكرةِ انهيار المسافة بين الغربيْن السّياسيّ والثّقافيّ، على الأقلّ في هذه الحالة التي يَرِد الكلامُ عليها (العدوان على غزّة) وعلى تماهي موقفيْهما فيها. من مبتَدَهات القول، ابتداءً، أن لا إمكان للاستدلال على استقلاليّة موقف الغرب الثّقافيّ عن الغرب السّياسيّ بتوسُّلِ دليلِ الشّارع المنتفض والمتضامن؛ إذِ الشّارع هذا ومَن يرتادونه من النّاس ليسوا في عداد المجتمع الثّقافيّ حتّى نحكُم على الأخير بأنّه حيّ، أو أن ننفيَ عنه صمتَه المُريب أمام مذبحة غزّة الجماعيّة. وقطعاً لا أحدٌ يجرُؤ على أن يَنْسُب إلى المثقّفين أفعال تضامُنٍ أفصحَ عنها عمومُ النّاس؛ إذ كيف لذي خَرَسٍ أن يُسْمَع رأيُه وأن يسير النّاسُ سيرتَه أو على مطماره؟!
لا ننفي أن تكون لانحيازات الشّارع الشّعبيّ، في مجتمعات الغرب، لقضايا الحقوق الاجتماعيّة وحقوق الإنسان والدّفاع عن البيئة والحريّات وضدّ العنصريّة… علاقةٌ مّا بما يقولُه المثقّفون في وسائل الإعلام وما يكتبونه في الصّحف والكتب من آراء وما يمارسونه، بالتّالي، من تأثيرٍ في الرّأي العامّ؛ ولا ننفي أن يكون شطرٌ من إرادة الاحتجاج لدى الشّارع ذاك قد توَلّد من الاقتناع بقسمٍ من تلك الآراء. ولسنا، استطراداً، ننفي أن يكون في جملة من يتظاهرون في مسيرات المجتمعات الغربيّة مثقّفون (وإنْ كان ذلك بات في حكم النّادر)، ولكنّ هذه الصّلة بين المثقّف والشّارع إذا جازت في أحوالٍ وقضايا – من جنس تلك التي أومأتُ إليها – فهي لم تَجُزْ في حالة فلسطين يوماً، وخاصّةً في هذه المحرقة الجماعيّة التي تجري في غزّة: لقد كان الشّارع في وادٍ والنّخبُ – مثل الحكومات- في وادٍ ثان، وما سلِم من هذه الآفة وحفِظ لنفسه ولصورته بعضَ الاعتبار إلاّ مَن رحم ربُّك من نزرٍ قليلٍ من ذوي الضّمائر الحيّة الحرّة.
بعيداً عن صلة الشّارع بالنّخب الثّقافيّة في الغرب – أو صِلتها هي بالشّارع – يَحسُن بنا أن نهتدي إلى الطّريق اللاّحب لقراءة هذه الحالة العامّة من مسيرات التّضامن العارمة قراءةً صحيحة تَدُلُّنا على جملة العوامل الفاعلة التي كانت في أساس اندلاعها، ثمّ اتّساعها على هذا النّحو من الشّمول. لسنا نُنكِر على شعوب الغرب تقاليد التّضامن التي عُرِفت بها في نكْباتٍ عدّة حلّت بمجتمعاتٍ وأمم من خارج الغرب، ولا نُنْكر على دولها تمتيعَها مجتمعاتها بحقوقها وحريّاتها التي تسمح لها بالتّعبير الحرّ عن مواقفها الجمعيّة تجاه القضايا العامّة. لكنّنا نميل إلى الاعتقاد بأنّ هذه الحالة غيرَ المسبوقة من التّضامن الحارّ مع الشّعب الفلسطينيّ في مواجهة العدوان الإجراميّ، ومن الاحتجاج الصّارخ على سياسات التّواطؤ الرّسميّ الغربيّ معه تجد تفسيرها في عاملٍ آخر فاعل غير التّقاليد النّضاليّة التّضامنيّة والتّقاليد الدّيمقراطيّة التي أشرنا إليها: في الأثر المتعاظم الذي يُولِّده وجودُ عشراتُ الملايين من المواطنين من أصولٍ عربيّة وإسلاميّة وجنوبيّة في بلدان الغرب، وداخل البيئات الاجتماعيّة الغربيّة التي يعيشون فيها، ويتّصلون بها، ويتفاعلون معها.
يستفيد الوجود العربيّ والإسلاميّ، والجنوبيّ عامّةً، من مواطنيّةٍ يتمتّع بها عشراتُ الملايين من أبنائه؛ وهي توفّر لهم الأطر السّياسيّة والثّقافيّة المناسبة للتّعبير عن هواجسهم ومشاعرهم تجاه أوطانهم الأصل وأهاليهم فيها وقضاياهم الكبرى التي يحملونها معهم جِيلاً بعد جِيل. لكنّه وجودٌ يتمتّع، من وجْهٍ ثانٍ، ببيئةٍ اجتماعيّة مناسبة للاندماج فيها والتّأثيرِ ولممارسة جميع ضروب التّبادل الثّقافيّ والقِيَميّ. نعم، من الصّحيح، تماماً، أنّ شبح العنصريّة البغيضة زاد تعاظماً في امتداد صعود اليمين العنصريّ المتطرّف في المعظمِ الغالب من بلدان الغرب، ولكنّ البلدان هذه – من حظٍّ حَسَن – كانت تتّسع لأكثر من هذه البيئة العنصريّة المغلقَة والمتشرنقة على ذاتها؛ كانت تتّسع، أيضاً، لبيئات اجتماعيّة غربيّة جاذبة وليست نابذة، وتفاعليّة وليس تقابليّة. وهذه البيئات هي التي أمكن فيها لِمن ليسوا من ذوي أصول أوروبيّة أن ينشروا آراءَهم ومواقفهم حول قضاياهم الخاصّة فيها، متبادِلين الرّأي مع مواطنيهم الآخرين فيها، وشارحين لهم ما استغلق عليهم أمرُهُ منها، ومساهمين في تكوين جمهورٍ من المتضامنةِ متفهِّمٍ لقضاياهم، بل مؤمن بعدالتها.
ما أغنانا عن القول إنّه في هذه البيئات الاندماجيّة والتّواصليّة، بالذّات، أمكن للمهاجرين (= المواطنين)، مثلاً، نشر الإسلام في أوساطِ غربيّين كُثر اعتنقوه لأسبابٍ ثقافيّة ونفسيّة واجتماعيّة شتّى؛ وفيها اليوم تزدهر قيمُ التّضامُن مع الشّعب الفلسطينيّ ازدهاراً لا سابق له. ولمّا كان للعرب والمسلمين هناك مؤسّساتهم المدنيّة الخاصّة، فلقد وقع عبء العمل التّعبويّ عليها في المقام الأوّل: ولكن بإسنادٍ من مؤسّساتٍ مدنيّة عامّة غربيّة: لديهم فيها حضورٌ ومواقع.. وتأثير.