الشيروفوبيا… لماذا تخاف الشعوب العربية من السعادة؟
في عالم يسعى الجميع فيه وراء السعادة، قد يبدو غريباً أن يخشى البعض هذا الشعور الجميل. إلا أن هناك من يعاني ممّا يُعرف بـ”الشيروفوبيا”، وهو رهاب السعادة. كيف نعرف ما إذا كنا مصابين بهذا الرهاب؟ وما الطرائق العلاجية للتغلّب عليه؟
الشعور بالذنب
“الخوف هو أفضل مناخ يساعد على نمو جرثومة الضلال المؤذية”. هذه ليست مقولةً شائعةً نمرّ عليها مرور الكرام، أو تستوقفنا بـ”لايك” أو “شير” على وسائل التواصل الاجتماعي، بل هي حقيقة حيّة تدفعنا إلى التفكير في صحتنا النفسية التي إن لم نعطِها أهميةً، فستُهلكنا وتقتلنا ببطء.
الشيروفوبيا (Cherophobia)، هي حالة نفسية يشعر فيها الفرد بالقلق أو الخوف من الشعور بالسعادة أو المشاركة في الأنشطة التي يُفترض أن تجلب الفرح. يُعدّ هذا الخوف غير منطقي، لكنه يمكن أن يكون عميقاً ومؤثراً على حياة الشخص.
“أتذكر اليوم الذي تلقّيت فيه خبر ترقيتي في العمل؛ بدلاً من أن أشعر بالفرح، شعرت بالقلق والتوتر. كان هناك صوت في داخلي يخبرني بأن هذه السعادة لن تدوم، وأن شيئاً سيحدث قريباً. شعرت بالذنب، وكأنني لا أستحقّ ذلك”، هذا ما يقوله الشاب علي زعيتر، متحدثاً عن شعوره بعد تلقّيه خبر ترقيته وسط الأخبار السلبيّة المحيطة به، كما حال كل اللبنانيين/ ات، نتيجة الأوضاع الراهنة.
لا شكّ في أن الخوف من المجهول يُقلق الإنسان عموماً، فكيف إذا كان هذا الشخص مقيماً في لبنان أو في بعض بلداننا العربية؟ أن نعيش في هذه البقة الجغرافية، يعني أنّه علينا التعايش مع المجهول، فتارةً تُقطع الطرق احتجاجاً وتنديداً بالمعيشة، وطوراً تصحو موجة الاغتيالات الفجائية، هذا طبعاً دون أن نذكر احتمال أن نتعرّض لمحاولة “تفجير”، أو أن ندخل في حرب “على غفلة”، وكلّ ذلك يُضاف إلى فاتورة العيش المُهلكة في بلدان يصعب العيش فيها كما يصعب الابتعاد عنها.
في اتّصال هاتفي مع رصيف22، تشرح المعالجة النفسية سالي خنيصر، الأسباب التي قد تؤدّي إلى الشيروفوبيا، مشيرةً إلى أنّها “تنجم عن أسباب عدة معقدة ومتداخلة، أحدها الارتباط الشرطي، حيث قد يربط الشخص بشكل لا واعٍ بين السعادة وتجارب سلبية سابقة. على سبيل المثال، إذا حدث شيء سيئ بعد فترة من السعادة، فقد يتطوّر لديه خوف من أن السعادة دائماً تتبعها أمور سلبية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الخوف من الفشل سبباً رئيسياً، حيث يعتقد البعض أن الشعور بالسعادة قد يؤدّي إلى التراخي أو الإهمال، ما يزيد من احتمال الفشل في جوانب أخرى من الحياة. كما تلعب الثقافة والمعتقدات دوراً مهماً، حيث قد يتعلّم الأفراد منذ الصغر أن السعادة يمكن أن تجلب الحسد أو أن الفرح المفرط قد تعقبه أحداث سيئة. زيادةً على ذلك، ترتبط “الشيروفوبيا” باضطرابات القلق الأخرى، حيث يمكن للقلق المستمر من المستقبل أو المجهول أن يدفع الشخص لتجنّب السعادة كوسيلة للبقاء في حالة يقظة دائمة. هذه العوامل مجتمعةً يمكن أن تخلق حاجزاً يمنع الأفراد من الاستمتاع بلحظات الفرح والسرور في حياتهم”.
تجارب صادمة خلال النزاعات
بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عاد مفهوم “الشيروفوبيا” ليَظهر بقوّة وينتشر في مجتمعاتنا على نطاق واسع، لا سيّما في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، إذ إن تلك الدول معنية بالتغيّرات الجيو-سياسية التي تطرأ على المنطقة.
تؤثر الحروب بشكل كبير على انتشار رهاب السعادة، حيث تخلق بيئةً من الخوف وعدم الاستقرار النفسي، وفق ما تشرح سالي خنيصر: “الأفراد الذين يمرّون بتجارب صادمة خلال النزاعات، مثل فقدان الأحبّة والدمار، قد يبدأون بربط السعادة بأحداث سلبية أو مؤلمة، كما يشعر البعض بالذنب تجاه الشعور بالفرح في حين يعاني الآخرون من الصعوبات، وهذا يؤدّي إلى تجنّب السعادة لتفادي خيبة الأمل أو الشعور بعدم الاستحقاق. بالإضافة إلى ذلك، الشعور بفقدان الأمان والقلق المستمر يدفعان الأفراد إلى تجنّب الفرح والتركيز على البقاء والتأقلم مع واقع الحرب الصعب”
بحسب دراسة أجرتها المكتبة الوطنية للطبّ، هناك “اعتقاد بأن الإفراط في السعادة قد يجذب أحداثاً سيّئةً، مثل العين الشريرة أو الحسد، أو حتى العقاب في الآخرة. وتالياً تتحوّل هذه الأفكار غير الصحيحة إلى متزامنة تُصاحب الشخص خلال حياته، وتُغيّر سلوكه وانفعالاته تجاه مواقف أو أحداث معيّنة، وتؤدّي في الكثير من الأحيان إلى الانعزال الاجتماعي أو الانتحار”.
“كنت أجهّز لعرسي قبل 6 أشهر. كنت أحلم بالفستان الأبيض وأختار أثاث بيتي بعناية، حتّى أن خطيبي كان يسخر مني ويتهمني بالاهتمام بالمنزل أكثر منه. وها نحن اليوم نقف أمام حطام ما تبقّى من عشّنا الزوجي الذي بنيناه بعرق الجبين، ونبكي خسارته… في الجنوب اللبنانيّ لا شيء ملكك حتّى ولو امتلكتِ سندات العالم أجمع، إذ إننا قد نخسر كلّ شيء في ثوانٍ، حتّى فرحتنا”، هذا ما تقوله الشابة غوى فيّاض (التي كانت تُحضّر لحفل زفافها في نهاية شهر آب/ أغسطس الحالي)، عن فرحتها “الضائعة” بين الدمار والركام في قرية عيترون التي لم يبقَ فيها حجر على حاله.
رحلة النزوح التي خاضها سكّان الجنوب باتجاه العاصمة بيروت وباقي المناطق اللبنانية، لم تكن سهلةً وتركت أثراً كبيراً في نفوسهم، فباتوا يشعرون بأنه لا سند لهم، خصوصاً بعد خسارتهم منازلهم وجنى أعمارهم. وفي المقابل، يشعر عدد كبير من اللبنانيين بالأمر ذاته وإن بتفاوت.
تخدير المشاعر
قد يظنّ البعض أن الشعب اللبنانيّ لا يبالي بالحرب المندلعة جنوباً، وبالخروقات الإسرائيلية المستمرّة لجدار الصوت فوق بيروت، أو حتى بالتهديدات العسكرية والحرب النفسية الدائرة التي يبدو وقعها أخطر بكثير من أصوات القذائف، إلّا أن صورة “طائر الفينيق” التي يصوّرها الإعلام ويسوّق لها البعض، غير دقيقة، ولعلّ ارتفاع استهلاك الكحول والسجائر والتنباك وأدوية الأعصاب خير دليل على ذلك.
في هذا السياق، تؤكّد سالي خنيصر، على أن “الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة في لبنان، والتي تعود جذورها جزئياً إلى تأثيرات الحرب الأهلية والتوترات الإقليمية، أدّت إلى زيادة الضغوط النفسية على الأفراد والمجتمع ككل. وهنا نُلاحظ أن هذه الضغوط تدفع العديد من الناس إلى اللجوء إلى استهلاك الكحول وأدوية الأعصاب والسجائر كوسائل للتكيّف مع التوتر والهرب المؤقت من الواقع المعقّد. فالحرب خلّفت جيلاً يعاني من القلق والخوف من السعادة، حيث يخشى البعض أن تتبع اللحظات السعيدة كوارث جديدة، ما يدفعهم لاستخدام هذه المواد كمحاولة لتخدير مشاعرهم والتعامل مع القلق المتزايد.
للتغلّب على “الشيروفوبيا”، تُشدّد المعالجة الاجتماعية هدى خضرا، على “ضرورة اللجوء إلى الدعم النفسي والاجتماعي بالدرجة الأولى، ومن ثمّ تعزيز الوعي حول أهمية الصحة النفسية كجزء أساسي من التعافي الوطني الذي يُعدّ ثانوياً بالنسبة للدولة اللبنانية، وتالياً لا تُعطيه أهميةً كبيرةً ما يُرتّب عليها نتائج سلبيةً عديدةً تجهلها، وهي غالباً تتجلّى على هيئة مشكلات اجتماعية متنوّعة مثل ارتفاع نسب الجرائم، الطلاق، التفكّك الأسري والانعزال الاجتماعي، بجانب المشكلات الصحيّة مثل ارتفاع ضغط الدمّ والسكري والأمراض القلبية”.
وتختم حديثها بالقول: “مِن المهم أن يبدأ الشخص بالتعرّف على الأفكار السلبية المرتبطة بالسعادة وتقبّل فكرة تغييرها. العلاج النفسي يمكن أن يكون مفيداً في هذا السياق، ويمكن أن تكون ممارسة التأمل واليقظة أداةً فعّالةً في تخفيف القلق وزيادة القدرة على الاستمتاع باللحظة الحاضرة. أمّا الحلّ الجذري، فيكمن في القيام بجلسات جماعية وعائلية بوجود معالج/ ة اجتماعي/ ة، حيث تساعد هذه الجلسات على معالجة الديناميات النفسية والاجتماعية التي تساهم في استمرار هذا الخوف، وتعزّز من بناء شبكة دعم قوية تساهم في تحسين الصحة النفسية وتخفيف الضغوط اليومية”.
عن رصيف 22