بمجرد أن صدر حكم محكمة العدل الدولية من دون أن يتضمن اتهاما لإسرائيل بارتكاب “جرائم إبادة جماعية” كما جاء في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا. وخلوه من أمر بوقف إطلاق النار في غزة، انتهت مفاعيل اللجوء إلى القضاء الدولي أقله في الجانب المعنوي.
انطلاقا من هذه النقطة تستمر الحرب في غزة في بالوتيرة المتفق عليها بين إسرائيل والولايات المتحدة. فالتوغلات البرية مستمرة تزامنا مع التخفيف من عنف القصف المدمر الذي تميزت به الأسابيع الأولى من الحرب البرية الإسرائيلية في القطاع.
وفي توصيف واقعي بعيد عن “البروباغاندا”، فإن التقدم الإسرائيلي البري متواصل، وذلك حسب الخرائط العسكرية التي تنشرها المواقع المتخصصة، إلى حد أن المحافظات الشمالية للقطاع سقطت بشكل عام، وجاري الإطباق على خان يونس، وخنق المخيمات الأربعة في الوسط.
بشكل عام، هذا ما يريده الإسرائيليون، ويوافق عليه الأميركيون ضمنا (وفق مواقف البيت الأبيض). لا وقف لإطلاق النار قبل حسم المعركة على الأرض. والمطلوب خفض وتيرة القتال، توازيا مع مواصلة التفاوض على تحرير الرهائن كجزء من عملية كسب الوقت.
صحيح أن الفصائل الفلسطينية تواجه بشراسة كبيرة. وصحيح أن الخسائر الإسرائيلية في حرب المدن والشوارع التي تخاض كبيرة نسبيا. لكن الصحيح أيضا أن الجيش الإسرائيلي يوسع من سيطرته على الأرض، وذلك بالرغم من الأزمة السياسية الخانقة في تل أبيب، واشتعال حروب “المشاغلة” التي يخوضها “محور الممانعة” من لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
بمعنى آخر أن الحرب مستمرة إلى أجل غير مسمى، والضغوط التي تمارس على إسرائيل من قبل حلفائها، وفي المقدمة الولايات المتحدة لا ترقى بعد إلى مستوى يمكن أن يلوي ذراعها ويجبرها على إنهاء الحرب عند هذا الحد.
يقيننا أن النقطة التي معها يُتوقع اقتراب نهاية الحرب، قد نصل إليها عندما يتقاطع عاملان اثنان: الأول مرتبط بالميدان ومدى نجاح الجيش الإسرائيلي في حسم المعركة في مدينة خان يونس، وخنق المخيمات الأربعة (المغازي، البريج، النصيرات، دير البلح) في الوسط، والضغط بقوة على مدينة رفح والشريط الحدودي مع مصر.
والعامل الثاني الموازي، أن تتقدم المفاوضات لتبادل الرهائن والأسرى، ومعها التفاهمات السياسية لمرحلة ما بعد حكم حركة “حماس” في غزة من خلال اتفاق دولي – إقليمي يقضي بتشكيل حكومة انتقالية غير “فصائلية” مهمتها إدارة المرحلة التي تلي انتهاء العمليات العسكرية. لا سيما أن الجيش الإسرائيلي لن ينسحب عمليا من المناطق التي أعاد احتلالها، قبل الاتفاق على حل لمعضلة بقاء أو مغادرة قيادة “حماس” العسكرية والسياسية القطاع، أسوة بنموذج لبنان للعام 1982 عندما غادرت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات كجزء من اتفاق لإنهاء حصار بيروت آنذاك.
لكن إلى جهة الشمال ثمة مخاطر جديّة وخطيرة. فحرب “المشاغلة” التي أشعلها “حزب الله” ضمن آلية ما سمي بـ “وحدة الساحات” تنذر بمضاعفات كبيرة. فقد ارتفع مستوى المواجهات على جانبي الحدود بين إسرائيل و “حزب الله” في الجنوب اللبناني. والمناوشات تحولت إلى حرب صغيرة، لكنها تبدو متدحرجة.
لم يعد بالإمكان القول إن الوضع على جانبي الحدود بين إسرائيل ولبنان مضبوط بشكل كامل. فالنزوح من مناطق الشمال الإسرائيلي والجنوب اللبناني بات يشكل عبئا سياسيا، وأمنيا، واقتصاديا على الساحتين الإسرائيلية واللبنانية. هذا إضافة إلى التدمير الكبير في القرى الحدودية اللبنانية والإسرائيلية. وارتفاع عدد الضحايا والمصابين.
طبعا يُلاحظ أن الأصوات الغاضبة في إسرائيل أعلى من الأصوات الغاضبة في لبنان بسبب الاختلاف في طبيعة التعبير وأساليبه بين جمهوري البلدين. لكن الثمن مرتفع.
ومع مرور الوقت تزداد كلفة “حرب المشاغلة”. فكلما طال أمد الحرب في غزة، وبالتالي أمد الحرب الصغيرة بين إسرائيل و”حزب الله” ارتفعت مخاطر ارتكاب خطأ مميت من هنا وهناك. لا سيما أن لهجة المواقف الصادرة من المستوى العسكري الإسرائيلي عالية جدا، ونوعية التحشيد العسكري الإسرائيلي على الحدود مختلفة عما سبق.
أما “حزب الله” فمتمسك بـ”حرب المشاغلة” المضبوطة الإيقاع ولا يعير أي اهتمام بالأصوات اللبنانية الرافضة قيامه بشن حروب متجاوزا الشراكة الوطنية والمؤسسات الشرعية.
وأما المستوى السياسي الرسمي اللبناني فغائب تماما وكأن الأرض انشقت وابتلعته. فهل تنتهي حرب في غزة وتبدأ حرب في لبنان؟