أردوغان الحائر بين إسرائيل وحماس
الركون إلى مشروع الإسلام السياسي لم تعد له قاعدة متينة، وأن إظهار التناغم معه الآن يكفي لخلق متاعب جمة للقيادة التركية، وهو ما جعل إشارة أردوغان بالمساندة العسكرية في مواجهة إسرائيل ضربا من الخيال.
تبدو حيرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التعامل مع إسرائيل لا تقل عن حيرته مع حركة حماس، حيث يريد الاقتراب في الحالتين ويخشى من التبعات الإقليمية، ويسعى للنأي والاحتفاظ بمسافة بعيدا عنهما ويتحسب من الروافد الداخلية المحرجة التي يمكن أن تترتب عن ذلك، وعندما لوّح الرجل مؤخرا بإمكانية الانخراط عسكريا في الحرب على قطاع غزة، ثم التضامن مع الحركة عقب عملية اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، تعرض لانتقادات حادة من قبل إسرائيل.
استفاد الرئيس التركي من مرونته في التعامل مع قوى إقليمية ودولية عدة، ونجح في القفز فوق أشواك كثيرة والدخول في مناطق وعرة، وتمكن من الهبوط بنعومة وخشونة أحيانا والخروج من بعض الأزمات العاصفة سالما.
عندما قام باستدارته الإقليمية الشهيرة وتطبيع العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر، لم يتوقع أنه سوف يواجه بأزمة غزة المعقدة، والتي وضعت بلاده في مأزق مع إسرائيل التي تربطها بتركيا علاقات تاريخية وطيدة، ومع حماس التي تحظى بتعاطف كبير داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة.
نجحت الليونة التي تبناها أردوغان في تجنيبه تداعيات الخشونة التي ظهرت على بعض تصرفاته نحو عدد من دول المنطقة، لكنه يقف الآن في لحظة فارقة، إذ لم تعد سياسة القبض على العصا من منتصفها لمنع وقوع خسائر مفيدة، أو يمكن أن تتعامل معها دول عديدة، ففي خضمّ الحرب على غزة وتبعاتها سوف يخرج من رحمها فرز كبير، تظهر تجلياته أكثر في اليوم التالي لوقف إطلاق النار تماما، والشروع في تطبيق أجندة لترتيبات جديدة، قد لا يكون لحماس موطئ قدم فيها، بينما لن تترك الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية الكبرى أن تواجه إسرائيل مأزقا وجوديا.
لم تستغرق إشارة أردوغان العابرة بالتدخل العسكري ضد إسرائيل، على غرار ليبيا أو ناغورني قرة باغ، وقتا للتفكير فيها والتعامل معها بالجدية التي تستحقها، ولم يجد استبعاد نموذج تدخله في سوريا والعراق من يدقق فيه.
ولم يحاول المراقبون استنتاج ما ينطوي على ذلك من هذا الاستبعاد، لأن الرئيس التركي درج على إطلاق تصريحات رنانة لتوصيل رسائل لمن يهمهم الأمر، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء العنوان الحقيقي في الخطاب المعلن، فهناك عناوين خفية أكثر أهمية، لأن الغرض في هذه الحالة معنوي، وليس ماديا.
راهنت أنقرة على أن سياستها المزدوجة ومناوراتها المركبة تضمن لها مكانا في أيّ مشروع إقليمي طموح تظهر قسماته في المنطقة، فإن لم تصبح قائدة له، فعلى الأقل تكون شريكا رئيسيا فيه، لكن المعطيات التي تفرزها تدريجيا حرب إسرائيل ضد حماس، وتصعيد المواجهة مع حزب الله اللبناني، ودخول إيران للانتقام من اغتيال إسماعيل هنية في طهران، سوف تلعب دورا مهما في تحديد بوصلة تركيا.
رسمت أنقرة جزءا كبيرا من طموحاتها على أنها محرك أساسي في الشرق الأوسط، ووجدت في ملف الجماعات الإسلامية مدخلا مناسبا لتحويل أحلامها إلى واقع، ثم انهارت الطموحات والأحلام مع سقوط حكم جماعة الإخوان في عدد من الدول العربية، وتحول غالبية قيادات التيار الإسلامي إلى عناصر مطاردة، وزادت الوطأة مع مغامرة حركة حماس عندما شنت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، وما أحدثته من بركان تجاوزت ارتداداته حدود إسرائيل.
ما يعني أن الركون إلى مشروع الإسلام السياسي لم تعد له قاعدة متينة، وأن إظهار التناغم معه الآن يكفي لخلق متاعب جمة للقيادة التركية، وهو ما جعل إشارة أردوغان بالمساندة العسكرية في مواجهة إسرائيل ضربا من الخيال.
كما أن التصريح ذاته طواه النسيان ولم تظهر له ملامح واضحة، لا على طريقة ليبيا أو سوريا، لأن الموقف بات أكثر جدية، ففي أيّ لحظة يمكن أن تنزلق المنطقة إلى صراع ممتد، تجد فيه أنقرة نفسها تقاتل بجوار إسرائيل وليس العكس، بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) ووجود أحد أهم قواعده الجوية على الأراضي التركية، ويعزز الاستنفار الذي أبدته الولايات المتحدة فرضية دخول الناتو معها، إذا تطور الصراع الإقليمي ولم تتمكن واشنطن من لجمه، وخرج عن نطاق السيطرة.
قد تنهي التطورات الإقليمية الحيرة التي تعيشها تركيا منذ سنوات، فبعد تهاوي مشروعها الإسلامي لم تبحث عن بديل جيد، حيث وضعته على الرف على أمل أن تعيد إليه الزخم في مرحلة لاحقة، وقررت التأقلم مع الأزمات والمشكلات، والتعامل معه بالطريقة التي تضمن لها مكاسب وتقلل من حجم الخسائر، وعندما أبدى أردوغان استعدادا “صارما” للحد من صلف إسرائيل، لم يكن يعني التصدي بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما إطلاق دخان في الهواء يسترضي به الجناح الإسلامي الغاضب في حزب العدالة والتنمية مما يحدث من انتهاكات في غزة.
وربما تكون الإشارة التركية حملت تأويلات مختلفة، وفسرت باتجاهات متباينة، لكنها كانت كافية لعدم تكرارها أو التلميح إليها مرة أخرى، لأن المضمون المباشر لها يجرّ متاعب كبيرة على أنقرة، ولو كان الحديث من قبيل “طق الحنك” السياسي، والذي يلجأ إليه بعض القادة من ذوي الميول الشعوبية والعقائدية، لمخاطبة فئة من الجماهير التي تطرب للخطابات التي تدغدغ المشاعر من دون أن تحمل قيمة مؤثرة، ما يشير إلى أن أردوغان لم يتخل بعد عن إرثه الإسلامي.
وهذه واحدة من التحديات التي تواجه الرجل في انفتاحه على مصر مثلا، حيث لا تزال هناك ملفات عالقة من أجل تحقيق المزيد من التقدم في العلاقات الثنائية، ولم تتم تصفية قضايا شائكة، أبرزها عدم الوصول إلى مرحلة القطيعة بين النظام التركي وجماعة الإخوان، والتي يصعب أن تستعيد دورها في المنطقة على وقع نتائج حرب غزة، وهو ما يعيه أردوغان جيدا، وسوف يدفعه جبرا نحو اتخاذ مسافة أكبر بعيدا عن التيار الإسلامي، وما يمثله تنظيم الإخوان من ضلع محوري فيه.
تفضل أنقرة التريث إلى حين استكشاف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه المواجهة بين إسرائيل وإيران، ومن المرجح أن تصل إلى نتيجة يقبل بها الطرفان وهي الخروج بالتعادل، أي لا غالب ولا مغلوب، ومن هنا تتواصل حلقات الحيرة التركية، فانكماش حماس وتيارها عموما قد يستغرق وقتا، وتمادي تل أبيب في غطرستها قد يطال أنقرة، ما لم تلتزم بما هو مرسوم لها من دور إقليمي وفقا لضوابط محددة، لأن الوقت لن يتحمل مزايدات أو كشفا عن فصول وهمية من “العنتريات” ولو على سبيل الاستعراض السياسي، فالأوضاع التي تخيم على المنطقة يصعب توقع مآلاتها النهائية.