خلال الـ31 من مايو (أيار) الماضي أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن مقترحاً من ثلاث مراحل لإنهاء الحرب في قطاع غزة. ودعا في المرحلة الأولى لوقف إطلاق نار موقت يتضمن انسحابات جزئية للقوات الإسرائيلية، وتبادل محدود للرهائن (والمعتقلين) وتدفق المساعدات. بعدها تبدأ المفاوضات وتفضي في حال نجاحها إلى المرحلة الثانية (من المقترح)، التي تتضمن وقفاً دائماً للأعمال العدائية وتلزم بانسحابات كاملة واتمام صفقة تبادل الرهائن كاملة. أما المرحلة الأخيرة فستشهد بداية جهود إعادة الإعمار في غزة، وتبادل جثث الرهائن الإسرائيليين.
على رغم الضجة التي رافقت الإعلان عن هذا المقترح فإنه لم يكن سوى واحد من مقترحات عديدة صيغت منذ بداية الحرب. إذ سبق لإسرائيل و”حماس” في الحقيقة أن رفضتا خططاً مماثلة تقدمت بها كل من مصر وقطر. وعلى غرار المقترحات الأخرى السابقة باءت خطة بايدن بالفشل. وعلى رغم أن تلك المبادرات المتبلورة عبر وسطاء لم تنجح في صياغة حل سلمي فإنها تجسد محاولات لوضع حد للمعاناة المستمرة بفعل الحرب. فلا ضرر من المحاولة.
أو أن المحاولة هي في الواقع مضرة. ويظهر التاريخ الموثق أن هكذا تدخلات دبلوماسية غالباً ما تسفر عن تداعيات سلبية للغاية. فالقوى الخارجية (أي الوسيطة) لم تتمكن أبداً تقريباً من فرض اتفاقات لوقف إطلاق النار تدوم من دون دعم الأطراف المتنازعة نفسها. والمقلق أكثر في هذه المسألة أن الجهود الخارجية المبذولة بغية تيسير الحلول الدبلوماسية يمكنها ربما مفاقمة الحرب. إذ بدل إحلال السلام ثمة احتمال مقلق يشير إلى أن الدبلوماسية التي تبذل من دون الأخذ بعين الاعتبار ما يحصل على أرض المعركة يمكنها في الحقيقة تأجيج النزاع. لذا وبناء على هذا، يمكن القول إن على الولايات المتحدة وحلفائها الضغط على “حماس” وإسرائيل لتبديل أسلوبهما في خوض الحرب، بدل السعي إلى فرض المفاوضات من دون أن يظهر أي من الطرفين المتنازعين رغبة في التسوية.
الخوف من التفاوض
يرى عدد من الأكاديميين البارزين أمثال روبرت باول وبرانيسلاف سلانتشيف أن المفاوضات خلال النزاع هي عملية يمكن أن تثمر مجموعة من النتائج. فمن جهة من المعادلة، قد ينجح الطرفان المعنيان بالنزاع في التوصل إلى اتفاق مقبول من قبلهما من شأنه أن ينهي الصراع. وفي منتصف المعادلة، يمكن للطرفين تحديد مجالات محدودة لحل وسط فيما يستمر النزاع على ضوء مجموعة أضيق من الخلافات. أما من الجهة الأخرى من المعادلة، فقد يفشل طرفا النزاع في التوصل إلى أية أرضية مشتركة ويستمر النزاع كأن شيئاً لم يكن. ففي جميع هذه الاحتمالات تبقى المفاوضات مجهوداً غير مكلف إما أن تحسن الوضع أو في أسوء الحالات لا تغير بالوضع القائم.
لكن يمكن أن يكون للمفاوضات تكلفة. فإحدى تلك الكلف تتمثل في أن القادة غالباً ما يشعرون بالقلق من أن يجري تفسير الرغبة بالتفاوض على أنها علامة ضعف أو تراجع العزيمة أو اهتمام بالتقاضي من أجل السلام. هكذا تأويل يمكنه تقويض المعنويات في الداخل أو تحفيز العدو على القتال بشراسة أكبر لأنه بات يعتقد أن النصر، أو المكاسب الإضافية في الأقل، في متناول اليد. هذا الخوف عبر عنه عام 1965 الرئيس السابق لهيئة الأركان الأميركية المشتركة ثم السفير في فيتنام الجنوبية ماكسويل تايلر. فقد حذر تايلر واشنطن من المبادرات الدبلوماسية تجاه فيتنام الشمالية لأن “التسرع في الذهاب إلى طاولة المفاوضات قد يحفز تصاعداً في جهود [الفيتكونغ] الهادفة لتحقيق أقصى ميزة تفاوضية ممكنة، ما دامت هانوي وبكين مستعدتان لتأويل حماستنا (للتفاوض) على أنها علامة ضعف”. وكذلك أبدى المسؤولون الفيتناميون الشماليون مخاوف مماثلة، فقالوا للسفير النرويجي لدى بكين عام 1967 إنه كلما كانت هانوي تظهر رغبة في التفاوض كانت الولايات المتحدة تنفذ هجمات جديدة. لذا فإن مفاوضات السلام لم تبدأ إلا عام 1968 حين شعر الطرفان أنهما أظهرا قوتهما عبر عمليات نفذاها في الميدان. وقد أدرك المسؤولون في واشنطن وهانوي على حد سواء أن الشروع عشوائياً في المفاوضات يمكن أن يؤدي إلى قتال أعنف ومزيد من التردي في العلاقات بين الطرفين المتحاربين. فالمفاوضات وبكلمات الوكيل السابق لوزارة الدفاع الأميركية في الشؤون السياسية فريد إيكلي والأستاذ في جامعة جورج تاون بول بيلار قد تسفر عن “آثار جانبية”، بصرف النظر عما إذا أثمرت اتفاقاً أم لا.
مما لا شك فيه في هذا السياق أن الوقائع على أرض المعركة يمكن أن تفسح المجال للمفاوضات. إذ إن شن الحرب يكشف قوة كل طرف مشارك بها، وأيضاً استعداده لاستيعاب كلف حل النزاع بشروط تناسبه. وتسهم معطيات القتال المستجدة في مساعدة جميع الأطراف على مراجعة توقعاتها، ويمكنها أن تؤدي إلى فهم موحد لمسار الحرب. وتوفر توجهات ميدان القتال المستدامة التي تكون باستمرار ووضوح لمصلحة طرف واحد، الطريق الأفضل نحو المفاوضات كما أظهرت الحرب الروسية – اليابانية بين عامي 1904-1905. فقبل أن تشن اليابان عملياتها العدائية، قليلون كانوا يتوقعون أن تلحق هزيمة حاسمة أو هزائم متكررة بروسيا في ساحة المعركة، بيد أن هذا هو ما حصل تماماً. فسلسلة الانتصارات اليابانية الحثيثة في أرض المعركة قادت الرئيس الأميركي تيودور روزفلت إلى لعب دور الوسيط بطلب من طرفي النزاع، والتفاوض على “معاهدة بورتسماوث” التي منحت اليابان معظم مطالبها.
أما توجهات جبهات القتال غير المتوازنة فلا تضمن فتح المجال أمام الدبلوماسية إن كان كل طرف من المتنازعين عاجزاً عن الوثوق في الآخر من ناحية احترام التسوية السياسية، أو إن كان طرفا النزاع عاجزين عن الوثوق في طرف ثالث لإنفاذ شروط التسوية. فبأحلك لحظات الحرب العالمية الثانية، عندما قامت ألمانيا بغزو أوروبا عبر استراتيجية الحرب الخاطفة بين عامين 1940 و1941، رفضت بريطانيا ودول أخرى التفاوض مع الزعيم الألماني أدولف هتلر لأنها لم تر أي سيناريو يمكن أن يلزم هتلر جدياً باتفاق سلمي، أو أن يبقي هكذا اتفاق منيعاً. وفي نهاية المطاف كشفت سياسة الاسترضاء التي انتهجت قبل الحرب أنه لا يمكن الوثوق بوعود هتلر. والحل الوحيد المتاح لمعالجة الأزمة يتمثل في القضاء على هتلر أو الموت خلال محاولة القضاء عليه.
كذلك يمكن للمؤسسات الدولية ولأطراف ثالثة (وسيطة) أن تضغط على الجهات المتنازعة بطرق تجبرها على انتهاج السلام. إذ يمكن للأطراف التعبير عن استعدادها للتفاوض كبادرة تعاون مع المجتمع الدولي وليس كعلامة تشير إلى تراجع العزيمة. ويسمح لها ذلك في أن يظهروا بمظهر المعتدل وأن يجعلوا خصمهم يبدو سبباً للتعنت. والمثل على هذا عايناه خلال “حرب سينيبا فالي” (Cenepa Valley War) بين الأكوادور والبيرو سنة 1995، عندما اقترح رئيس الإكوادور سيكستو دوران بالين على مجلس أمنه القومي أن يطلب مساعدة دبلوماسية من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والولايات المتحدة الأميركية كي تبدو الإكوادور طرفاً منفتحاً وحسن النية. وفي السياق لا يمكن للضغط الدبلوماسي أن يجعل التفاوض أقل خطورة وحسب، بل يمكنه أيضاً أن يجعل الموقف الرافض للمفاوضات موقفاً مكلفاً. ففي نزاعات عديدة بما فيها نزاعا أوكرانيا وغزة، تمكنت أطراف ثالثة مدعومة بمؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة من إقناع طرفي النزاع بالتفاوض، فيما القتال متواصلاً. وليس من قبيل المصادفة هنا أن يكون معدل وقت استلزم للمحادثات فيما القتال يستعر أعلى بمقدار الضعف تقريباً بين عامي 1947 و2003، مما كان عليه بين عامي 1823 و1945 حين أسس النظام السياسي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
لعبة الخداع
اعتقاد خاطئ آخر عن التفاوض يتمثل في النظر إليه على أنه دائماً ينعقد بنيات حسنة. وحتى إن لم يتوصل المتنازعون إلى تسوية يجري الاعتقاد بأنهم بذلوا محاولة صادقة للتوصل إلى توافق متبادل. لو كان هذا صحيحاً قد لا يكون هناك ضرر من التحادث والمفاوضات، بيد أن الواقع أشد تعقيداً. فالمتخاصمون يمكنهم التفاوض بنيات سيئة وهم غالباً ما يفعلون ذلك، إذ يظهرون اهتماماً بالتسوية فيما يسعون في الحقيقة إلى إفشال المحادثات. ويمكن للمتخاصمين غير الصادقين استخدام وقت اكتسبوه عبر التحادث والمفاوضات لإعادة التسلح وتنظيم الصفوف، وتفادي اللوم السياسي تجاه الحرب، أو لممارسة الدعاية السياسية. وحينها يصبح التفاوض طريقة لخوض الحروب، وليس فقط لإنهائها.
هذه الديناميكيات شهدناها بين عامى 1951 و1953 خلال المحادثات في كايسونغ وبانمونجوم لإنهاء الحرب الكورية. وقد أشار ويليام فاتشير الطبيب النفسي الرئيس الذي عمل آنذاك ضمن وفد “قيادة الأمم المتحدة” (UNC)، إلى أنه بسبب “فشل كوريا الشمالية والصين في تحقيق أهدافهما على أرض المعركة في كوريا، فقد توجهتا إلى طاولة المحادثات كوسيلة لتحقيق تلك الأهداف… ولاكتساب وقت ثمين كي تقومان بإعادة بناء قواتهما وتعزيزها، والسعي إلى اغتنام أية مكاسب ممكنة من قيادة الأمم المتحدة، واستخدام المفاوضات منصة لدعايتهما السياسية”. كذلك قامت الهيئة الأميركية التي ترأس وفد قيادة الأمم المتحدة بممارسة الممطالة خلال تلك المحادثات كي تظهر للحلفاء أنها تعطي فرصة للدبلوماسية، فيما تخلق في الواقع فسحة سياسية أكبر لاستمرار القتال.
يكون التفاوض أكثر صدقاً عندما يشعر طرف في النزاع بانعدام الخيارات الأخرى أمامه، أي عندما تكشف أرض المعركة بوضوح النتيجة المرجحة للحرب. عندما يحصل ذلك سيقوم طرف في النزاع ومن تلقاء نفسه بالسعي إلى التفاوض على رغم خطر أن يبدو ضعيفاً. ومن دون هذه العوامل – ومع استمرار الأمل بالنصر – يكون المتحاربون أكثر ميلاً للتفاوض بخبث. ومن هنا يمكن القول إن إجبار المتخاصمين على التفاوض قبل أن يكشف ميدان المعركة مسار الصراع (ونتيجته المرجحة)، قد يأتي بنتائج عكسية، ويسفر عن حاصل يؤدي إلى الإضرار بالتسوية.
هذا هو الخطر القائم في حرب غزة. إسرائيل و”حماس” ليستا مستعدتين راهناً للوصول إلى اتفاق مقبول من الطرفين. وقد تنجح التوافقات فقط عندما تصبح جميع الأطراف مستعدة للقبول بنفس الشروط وعندما ترى جميع الأطراف أن تلك الشروط ستطبق. الآن لا يتوافر أي من هذين الشرطين. بل على النقيض من ذلك فإن الهدف الأساس للطرفين لم يتزعزع منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، حماس تريد البقاء ككيان سياسي وعسكري وإسرائيل تريد القضاء عليها. وبغض النظر عن أية تغييرات محتملة في مواقف الطرفين في ما يتعلق بوجود القوات الإسرائيلية في غزة أو حق عودة الفلسطينيين، أو قابلية حل الدولتين – وهما في حد ذاتهما من المسائل المستعصية – فإن المواقف المتعارضة جذرياً في شأن مستقبل “حماس” لا تتيح مجالاً لأي اتفاق.
الطريق المسدود
تميل الأطراف المتحاربة إلى الاعتقاد أن أي اتفاق سلام لن يدوم إلا عندما يكون طرف واحد في الأقل أضعف من أن يواصل القتال، أو عندما يرى طرفا النزاع أن أية محاولة للتراجع عن اتفاق موجود قد تؤدي إلى عواقب وخيمة. إلا أن هاتين الحالتين غير متوافرتين اليوم في غزة. فعملية رفح التي انطلقت مطلع مايو (أيار) الماضي والمصممة لتقويض “حماس”، لم تحقق أهدافها. “وحماس” لا تزال مستعدة للقتال على ما يبدو وليس مطلبها المتشدد حتى يوليو (تموز) الماضي والداعي لانسحاب إسرائيلي شامل من غزة إلا لتأكيد هذه الحقيقة. كذلك أسهمت هجمات إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين بزيادة الدعم السياسي لـ”حماس”، والذي قد يتعزز في الواقع فيقلص من احتمالية التزام أعضاء هذه الحركة بأية صفقة أو اتفاق.
وتواجه كل من إسرائيل و”حماس” ضغوطاً كبيرة ومتواصلة للتفاوض، مما يدفعهما – إن لم نقل يجبرهما – إلى التظاهر بالاهتمام في الدبلوماسية. وقد ردت “حماس” على المقترح الذي قدمه بايدن خلال الـ31 من مايو (أيار) الماضي عبر قولها إنها تود العمل “إيجاباً وبطرق بناءة” للتوصل إلى وقف إطلاق نار. وفي بيان مكتوب نشر بعد أسبوع أعادت الحركة تأكيد “موقفها الإيجابي من تصريحات بايدن”. وهذه اللغة الإيجابية لا تعبر عن رغبة “حماس” الصادقة في التوصل إلى اتفاق. بل إنها على العكس من ذلك تعكس إدراك الحركة بأن إعلان بايدن صمم كي يلقي لوم الاستمرار في الحرب على “حماس”. إلى هذا فإن اقتراح صيغ مختلفة قليلاً من الخطة نفسها المكونة من ثلاث مراحل وقبولها ثم رفضها على مدى أشهر عدة على رغم تبدل الوقائع السياسية والميدانية، يشير إلى أن الجهود الدبلوماسية مدفوعة على نحو أساس برغبة طرف ثالث في وقف القتال، وليست مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بظروف الأطراف المتنازعة الحقيقية أو المتصورة. وهذه الأطراف إن دفعت للانخراط بالدبلوماسية من دون حل نقاط الخلاف الجذرية العالقة بينها، فإنها قد تستغل المحادثات والمفاوضات لمصالحها السياسية والعسكرية الخاصة. على سبيل المثل، يمكن لطرف من طرفي النزاع أن يوافق أو يدعي الموافقة على شروط من غير المرجح أن يقبلها الطرف الآخر، على رغم أنها قد تبدو منطقية للمراقبين الخارجيين. وهذه العملية تسمح لطرف واحد أن يكسب تأييداً سياسياً دولياً عبر رمي مسؤولية استمرار النزاع على الطرف المنافس، بالتالي تبرير الاعتداءات المستمرة والمتصاعدة (التي تحدث). إلى هذا فإن أي توقف موقت للعمليات القتالية بسبب المفاوضات يوفر فرصاً أخرى لإعادة حشد القوات والاستعداد لاستئناف الأعمال العدائية، كما حصل خلال الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى. فخلال أكتوبر 1948 وبعد خمسة أشهر من بداية الصراع أسهم الوفد الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة بالمساعدة في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 62، الذي دعا جميع المتحاربين لإعادة الأرض التي احتلوها والانسحاب إلى مواقعهم التي كانوا فيها قبل أسبوعين (من اندلاع الحرب)، وذلك بموازاة دعوة إلى مزيد من المفاوضات. لم تكن إعادة الأمور في ساحة المعركة إلى ما كانت عليه قبل أسبوعين لتعني كثيراً بالنسبة إلى إسرائيل، كونها سلفاً حققت مكسباً مهماً على الأرض آنذاك. ومع هذا أيد المسؤولون الإسرائيليون القرار الأممي لأنهم توقعوا على نحو صائب أن الدول العربية سترفضه، وبذلك حولوا وجهة النقد الدولي نحو الدول العربية، وبات بإمكان إسرائيل مواصلة عملياتها العسكرية المخطط لها.
إدارة الدفة
هكذا عوامل لا تبشر بالخير بالنسبة للجهود الدبلوماسية التي تبذلها إدارة بايدن في الآونة الأخيرة. إذ خلال المفاوضات المتواصلة بنوبات واستئنافات، قام ممثلو إسرائيل و”حماس” مراراً وتكراراً بتبادل لوم التعنت علناً، وذلك في محاولة من قبل كل طرف كي يبدو بمظهر مسؤول. فإن تخلت “حماس” كلياً عن التعاون مع جهود الوساطة القائمة، تغدو إسرائيل قادرة على القول إنها حاولت – على رغم أنها لا ترى أية مصلحة في نجاح المفاوضات طبعاً – وإن العنف هو الطريق الوحيد للمضي قدماً. وفي المقابل، لو قبلت “حماس” الاقتراح للبدء بتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، فإن الطرفين سيكسبان ستة أسابيع وقف نار موقتاً كي يعيدا تنظيم صفوفهما إن تعرضت المفاوضات المؤدية إلى المرحلة الثانية من الخطة للفشل. واحتمالات الفشل هنا تبقى عالية جداً نظراً إلى الخلاف الجذري بين الطرفين. إذ ما أن أنهى بايدن كلامه (المتعلق بالخطة المقترحة) حتى سارع نتنياهو للقول إن الخطة لا تؤثر في هدفه الأول المتمثل بتدمير “حماس”، و”حماس” بالتأكيد سترفض بدورها أي اتفاق يبلغ من طريق المفاوضات ويدعو إلى تدميرها.
ومن هنا فإن الوضع القائم قد يغدو صيغة مكررة لما حدث خلال يونيو (حزيران) 1948، عندما قامت الأمم المتحدة خلال الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى بترتيب وقف نار موقت لأربعة أسابيع، بغية تأمين مجال لوسيط الأمم المتحدة فولكي بيرنادوت للمفاوضة على اتفاق سلام دائم. وفيما كان بيرنادوت يقدم اقتراحات عديدة في ذلك السياق قامت إسرائيل ومناوئوها العرب بتطويع جنود ومقاتلين جدد، وبتنشيط شحنات الأسلحة الدولية وتخزين السلاح. وبعكس ما أوحي للوسيط الأممي آنذاك، لم يكن لأي من الطرفين أبداً أية رغبة في تقديم التنازلات، وقد استعد الطرفان لشن هجمات قبل الموعد الرسمي لانتهاء وقف إطلاق النار لأخذ الطرف المعادي على حين غرة. وعندما سقط وقف إطلاق النار جاءت الأعمال القتالية التي أعقبت لمصلحة إسرائيل كلياً، إذ استفادت من فسحة الزمن التي أتاحتها المفاوضات. وهكذا فإن الآثار الجانبية للدبلوماسية أدت إلى مزيد من الحرب.
إن العلاقة القوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل تزيد من تعقيد آفاق السلام في حرب غزة الراهنة. وقد رأى مفكرون سياسيون في هذا الإطار أمثال كاتيا فافريتو وأندرو كيد وبورشو سافون أن الوسطاء الأقوياء المنحازين – والولايات المتحدة أحد هؤلاء بانحيازها لإسرائيل – حققوا نجاحاً أكبر من الوسطاء الأضعف أو غير المتحيزين، في إقناع المتحاربين بالوصول إلى تسوية. لأن الوسطاء الذين ينحازون لطرف ما قادرون على إقناع ذاك الطرف في التفاوض والالتزام باتفاق، بيد أن الولايات المتحدة في هذا الإطار قد تكون شديدة التحيز. فواشنطن أظهرت باستمرار استعدادها لاستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لحماية إسرائيل، وانتقاد المحكمة الجنائية الدولية، والتسامح عموماً تجاه سلوك إسرائيل في سياق الحرب. وقد استدعى الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل شكوكاً في قدرة الولايات المتحدة على ردع إسرائيل عن التراجع عن التسوية.
امنحوا السلام فرصة
جهود الطرف الثالث (أي الوسيط) للدفع نحو حلول دبلوماسية من دون النظر إلى آراء (خلفيات) المتحاربين وظروفهم وأهدافهم، قد تقوض (احتمالات) السلام. إذ إن التسويات المولودة عبر التفاوض والناتجة من ضغوط طرف ثالث تبقى أكثر عرضة للانهيار من التسويات التي تسعى إليها الأطراف المتنازعة بنفسها. إن السلام الحقيقي يعتمد على ممارسات أكثر حكمة وجهود أكثر تطلباً تقوم بها الدبلوماسية الدولية. ومن المؤكد أن اتفاقات وقف إطلاق النار المولودة من المفاوضات حتى ولو كانت هدنات قصيرة، غالباً ما تكون ضرورية بغية تقديم مساعدات إنسانية ذات قيمة للمدنيين الأبرياء الواقعين في مرمى نيران الحرب. وهكذا جهود موجهة للفلسطينيين بهذه الحالة ينبغي ألا تتوقف. بل يجب النظر في فوائد الإغاثة الإنسانية الناجمة عن وقف إطلاق النار الموقت بموازاة الجوانب السلبية المحتملة وطويلة الأمد للدبلوماسية غير الصادقة (أو الماكرة). فتجاهل هذه المعضلة يمكن أن يؤدي إلى معاناة أكبر.
وعلى رغم إمكانية تأثير عدد من الدول والمؤسسات الدولية في الحرب الراهنة، فإن الولايات المتحدة تبقى صاحبة النفوذ الأكبر. إذ لواشنطن في هذا الإطار عدة بدائل يمكن أن تؤثر بطريقة أكثر جدوى في مسار الصراع من استراتيجيتها الحالية المتمثلة بالضغط من أجل عقد محادثات. أولاً، على بايدن أن يغير وجهته عبر الإعلان وإظهار النية بأنه سيعاقب مرتكبي الفظائع الإنسانية ومنتهكي قوانين الحرب. وكما سبق (للمحامية الأميركية) أونا أ. هاثواي أن كتبت في “الفورين آفيرز” بوسع واشنطن الاستفادة إن تراجعت عن هجومها على المحكمة الجنائية الدولية وإن دفعت إسرائيل للتحقيق في مخالفات جنودها ومعاقبتهم. على بايدن أن يفعل ذلك وعليه زيادة التهديد بتجميد أو وقف شحنات الأسلحة إن لم يتبدل سلوك إسرائيل. وهذا لن ينقذ أرواح مدنيين وحسب بل سيسهم أيضاً ولو ببطء في بناء ثقة بالولايات المتحدة في أن تكون حكماً محايداً لوقف إطلاق النار مستقبلاً. ولتقويض قدرة “حماس” في جهود التجنيد والتعبئة على الولايات المتحدة تشجيع إسرائيل على استهداف عملاء “حماس” مباشرة وتلافي إيذاء المدنيين الفلسطينيين. كما سيكون للعقوبات المفروضة على المجموعات والأفراد الذين يؤججون العنف، دور في هذا السياق.
وأيضاً على الولايات المتحدة – كما مصر وقطر وغيرهما من الوسطاء المحتملين – أن تكون مستعدة لتقديم خدماتها متى يطلبها طرفا النزاع. لكن الجهود المستمرة للحث على المفاوضات أو الإصرار على شروط لا تتماشى مع مواقف المتحاربين الفعلية يجب تتوقف. إذ لو جرت المفاوضات فعلاً فإن احتمال نجاحها سيعتمد إلى حد كبير على مجريات في ساحة القتال تكون كشفت أرجحية طرف في النزاع وقبول كلا الطرفين بإمكانية تسوية قابلة للإنفاذ. فأهمية الطرف الثالث (أو الأطراف الثالثة) لا تكمن في قدرته على خلق السلام حيث لا يوجد سلام. بل في قدرته على المساعدة بتنسيق السلام وهندسته عندما يكون الطرفان مستعدان للتفكير به واعتماده، والحد من خطر أن يبدو المتحاربون (أو أحد أطراف النزاع) في حال ضعف أو عرضة للاستغلال أثناء التفاوض. إن الضغط على إسرائيل لتقليص الخسائر المدنية ومعاقبة جنودها الذين قاموا بسلوك غير مقبول أو إقناع جميع المتحاربين بإلقاء السلاح، هي مسائل ستتطلب إرادة وصبراً سياسياً وضبطاً للنفس أكثر مما تتطلبه مساع عامة تدعو للقبول بتسوية غير مرجحة. كما أن هذه الإجراءات والأفعال تحمل وعداً ولو ضئيلاً بتغيير إيجابي.