وقال آخرون إننا أمام حالة «حكم رعاع» خطيرة. وبموازاة ذلك احتفل الإعلام العربي بتفكك إسرائيل كدولة، وتطايرت التحليلات بقرب الخلاص، وبأن إسرائيل تنهار من الداخل وتأكل نفسها بنفسها. وهكذا طغت المبالغة في الانتقال من التشخيص الصحيح نحو التنبّؤ المتهوّر، الذي لا يستوي مع التحليل الواقعي المنطقي.
طرأ بعد السابع من أكتوبر تصعيد كبير في التضييق على أسرى الحرية الفلسطينيين، وحدث انهيار كبير في ظروف الأسرى في السجون كافة وليس في «سدية تيمان» فقط.
يجدر عدم التقليل من دور المجموعات الفاشية ومسانديها في النخب الإسرائيلية، فلها تأثير ليس بالقليل على اتخاذ القرار السياسي في الدولة الصهيونية، عن طريق فرض حالة من الترويع والإرهاب، لردع القيادات السياسية والأمنية والقضائية عن اتخاذ قرارات لا تنسجم مع التوجهات اليمينية المتطرفة.
لكن من المبالغة القول إن المجتمع الإسرائيلي يتفكك وإن الحرب الأهلية على الأبواب، وغير ذلك محاولات تفسير الأحداث استنادا إلى أمنيات وأوهام وليس إلى حقائق موضوعية صلبة. جاء انفلات قطعان اليمين الفاشي الإسرائيلي في سياق تمجيد وحماية الجرائم التي ترتكب بحق الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وما من شك بأن أسرى الحرية يمرون بأصعب الظروف منذ عشرات السنين، وتستغل الدولة الصهيونية الانشغال العالمي والمحلي بالاجتياح الإسرائيلي الإجرامي لقطاع غزة والأعمال القتالية على الحدود اللبنانية، لارتكاب أبشع الموبقات بحق الأسرى الفلسطينيين.
الحيلة «القانونية» الإسرائيلية، هي أنها تعتبر أسرى غزة «حالة خاصة»، فلا هم سجناء ولا هم أسرى، وبالتالي لا يسري عليهم المنصوص عليه في القانون الدولي. لم تشهد فلسطين مثل هذه الحالة الفظيعة للاعتقال منذ النكبة، سوى في معتقلات الشباب الفلسطيني، التي وصفها الباحث الفلسطيني مصطفى كبها في كتابه «أسرى بلا حراب»، وسرد فيه معاناة 14 ألف أسير فلسطيني بين عامي 1948-1950، حيث قامت القوات الإسرائيلية باعتقال الذكور الفلسطينيين في جيل 15-60 عاما، وتعاملت معهم بشكل تعسّفي وقمعي بلا حقوق أسرى أو سجناء.
وأشارت تقارير حقوقية، إلى أن أسرى ظلّوا يصرخون لساعات طلبا للعلاج، ولم يُستجب لهم فلقوا حتفهم، كما كشفت أن الجو في المعسكر مشبع بالرائحة الكريهة الناجمة عن جروح متعفّنة لا تعالج. هذه التقارير هي لائحة اتهام مسنودة بالدلائل تفضح الدولة الصهيونية وتعرّض المسؤولين فيها لمساءلة قانونية دولية.
ثانيا: الخوف مما يجري في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، ومحاولة استباق تقديم لوائح اتهام جديدة ضد القيادات الإسرائيلية، بالادعاء بأن إسرائيل تجري التحقيق بنفسها وتحاسب المسؤولين عن خرق القانون الدولي. وتحاول الجهات القانونية الإسرائيلية إقناع المحكمة الدولية بأن مبدأ الاستكمال يعمل لصالحها لأن في إسرائيل قضاء «مستقل ومستقيم وقوي وفاعل»، يلغي الحاجة لتدخل قضائي دولي. وهي تحاول استغلال مظاهرات الاحتجاج للبرهنة على «جدية التحقيق».
ثالثا: محاولة إقناع بريطانيا بالامتناع عن اتخاذ خطوات عقابية ضد إسرائيل، خاصة بعد أن قررت حكومتها إعادة تمويل وكالة غوث اللاجئين ـ الأونروا، وسحبت تحفظاتها على إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن، يوآف غالانت. وتخشى إسرائيل من أن تقوم الحكومة البريطانية بتنفيذ تهديدها بحظر تزويدها بالأسلحة والذخائر، وأن يؤدي ذلك إلى اتخاذ دول أخرى خطوات مماثلة. ويستند التهديد البريطاني إلى أن إسرائيل تخرق القانون الدولي في أعمالها العسكرية وفي تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين.
رابعا: التغطية على تصريحات وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، التي تباهي فيها بالتعامل السيئ مع الأسرى الفلسطينيين، ما أثار مخاف لدى النخب الإسرائيلية من إمكانية أن تأخذ بها جهات دولية لإثبات أن إسرائيل تنفّذ جرائم حرب. وهنا يأتي التحقيق للتوضيح، أن كلام بن غفير لا يؤثر على «التزام إسرائيل بالقانون الدولي»، ومسرحية التحقيق هي محاولة للتغطية على صراحة المجرم بأكاذيب محامي الدفاع.
خامسا: من حيث المبدأ، تفرض المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على أفرادها الالتزام بقواعد الإجرام المنظم، وعدم اللجوء إلى ما يسمى «أخذ القانون بالأيدي» والقيام بممارسات فردية خارج إطار الأوامر العسكرية الرسمية. عادة ما تتسامح هذه المؤسسة مع «خروقات» كهذه، طالما لم يجر تصويرها وتوثيقها ولم تتحول إلى انفلات يصعب ضبطه. الجيش الإسرائيلي يوفّر لجنوده أطرا وأشكالا متعددة للتعبير عن السادية ولتفريغ غريزة الانتقام والقتل والتدمير، ولا حاجة بنظره لمبادرات فردية. ويهدف التحقيق مع الجنود لتأكيد مبدأ سيادة القانون الذي يسمح بالجريمة المنظمة لا الجريمة المنفلتة.
طرأ بعد السابع من أكتوبر تصعيد كبير في التضييق على أسرى الحرية الفلسطينيين، وحدث انهيار كبير في ظروف الأسرى في السجون كافة وليس في «سدية تيمان» فقط. فقد أدى حبس ما يقارب 10 آلاف معتقل جديد إلى اكتظاظ رهيب في السجون، وأصبح عدد الأسرى الإداريين بالآلاف، وجرى تقليص الخدمات الطبية ومصادرة الحاجيات الأساسية وحرمان الأسرى من زيارات الأهالي، وفرضت قيود شديدة على لقاء المحامين، وأصبح الطعام سيئا جدا ورائحته كريهة وبكميات قليلة جدا، وزادت بشكل كبير الاعتداءات على الأسرى لأتفه الأسباب. وقد استشهد في فترة الحرب 19 أسيرا في السجون المختلفة، بالإضافة إلى شهداء «سدية تيمان» يصل الأسرى الشهداء إلى 55 شهيدا.