أوروبا

كيف اختزل حفل افتتاح الأولمبياد ثقافة العاصمة الفرنسية؟

إنّ باريس تعشق الحس النقدي، دون حدود، فإذا كان بعض الكيتش الذي تضمنه حفل الافتتاح يحتوي على نقد ذاتي، فباريس تحب نقد النقد

تاريخيًا.. كان حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، بيد أنّ ما يجعله تاريخيًا ليس بالضرورة فقط ما احتواه من مظاهر إيجابية.

نعم، الإيجابيات كثيرة فيه، ولا بد من التأكيد على هذا الأمر البديهي. جريء وشجاع كان رفع تحدي التغيير والتجديد، المتمثل في إجراء حفل الافتتاح في الهواء الطلق، على طول مدينة هي من أكبر مدن العالم، وذلك لأول مرة في تاريخ الألعاب الأولمبية، حتى لو جاء ذلك على حساب راحة الباريسيين، وحرية حركتهم، ومصالحهم التي تضررت بفعل إقفال الأحياء الممتدة على ضفتي نهر السين (مساحة إجمالية هائلة)، وتحويلها إلى منطقة أمنية مقفلة، بتدابير مشددة جدًا (ضرورة إبراز تصريح مرور يجب الاستحصال عليه مسبقًا، وبشروط معينة، من شرطة باريس)، بإمكانية حركة شبه مستحيلة، حتى للمشاة، وذلك خلال كل الأسبوع الذي سبق حفل الافتتاح.

إنّ التركيز على الحق بالاختلاف، وعلى قيم التعددية (أو التنوع) والاحتوائية (أو الاندماجية)، وعلى نضالات المرأة، وغيرها من القيم الإنسانية التقدمية، كلها أمور تُرفع لها القبعة، وكلها أمور تثير حفيظة اليمين المتطرف، ليس في فرنسا فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم، ليس اليمين المتطرف “المسيحي” فحسب، بل كل يمين متطرف، مهما كان انتماؤه الديني أو اللاديني، وهذا أمر جيد، وهذا دليل صواب، في جزء كبير منه.

على سبيل المثال، لا الحصر، جاء مشهد جوقة الحرس الجمهوري الفرنسي مع آيا ناكامورا، المغنية من أصل مالي، صفعة مدوية على وجه اليمين المتطرف في فرنسا، ولا سيما بعد كل ما كانت قد تعرضت له من حملة عنصرية شعواء، وقحة، كارهة، على وسائل التواصل وفي الإعلام، خلال فصل الشتاء الماضي، عندما تم تسريب خبر مفاده أنها ستشارك في حفل افتتاح الأولمبياد.

صحيح أنها لم تؤدِّ أغنية لإديت بياف كما كان من المفترض أن يحصل، وذلك بسبب الاعتراض الكبير الذي لم يخل من الكثير من العنصرية (المغنية الكندية سيلين ديون هي من غنّت بياف في نهاية المطاف)، ولكنها ضمنت أغنيتها كلمات من أغنية شهيرة لشارل أزنافور، وهو أحد رموز الأغنية الفرنسية.

وتأتي هذه المشهدية، ضمن مشهديات كثيرة أخرى من نفس الطينة، بعد أسابيع من فوز حزب التجمع الوطني بالانتخابات الأوروبية، وتصدره في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جرت على إثر ذلك، مما يجعل من رمزيتها تأخذ معانيها الكاملة.

“تبشيرية” أخلاقوية ثقيلة

ولكن، في نفس الوقت، هيمن على حفل الافتتاح نوع من “الإرغامية” الثقيلة في هذا الخصوص، التي تقترب جدًا من الدعاية السياسية (البروباغندا)، والتي نقلت افتتاح من المفترض أن يحتفل بالرياضة وقيمها في الانفتاح والتعددية، إلى الوقوع في نوع من “التبشيرية” الأخلاقوية الإيديولوجية الثقيلة، والتسييس المفرط للقيم الأولمبية.

وقد أعطت هذه “الإرغامية- التبشيرية” انطباعًا عامًا، ولا سيما لمن يعرف باريس جيدًا ويعيش فيها منذ زمن طويل، بأنّ هذا الاحتفال قائم على رؤية تختزل العاصمة الفرنسية، وتقزِّم ثقافتها.

إقرأ أيضا : حفل أولمبياد باريس.. انتحار ما بعد الحداثة

إنّ باريس مدينة– عالم، من غير الجائز اختزالها بثقافتي الكباريه وحي “الماريه” (حي المثليين في باريس). فالانطباع الذي أعطاه الحفل هو أنه كان يتمحور، بشكل رئيسي، حول أدبيات/مواضيع عادة ما تُخصص لها مسيرات فخر المثليين (غاي برايد)، معطوفة على حفل مسابقة الأغنية الأوروبية (اليوروفيجن)، ولكن لا يُخصص لها افتتاح أولمبياد عالمي.

وينم ذلك عن رؤية “برجوازية-بوهيمية” لباريس، رؤية منغلقة جدًا على الذات الجمعي لدى نخبة ثقافية باريسية معينة، غالبًا ما يعيش أعضاؤها يوميًا، بين بعضهم البعض (غالبًا ما يتشاطرون نفس أحياء السكن، وأماكن العمل، وأماكن التسلية والمقاهي والمطاعم النخبوية (select, branchées) التي يرتادونها لرؤية بعضهم البعض)، في “فقاعة” عاجية، معزولة عن الواقع بشكل كبير، ومنفصلة عنه.

إنها ذهنية تجعل أصحابها لا ينتبهون إلى أنّ افتتاح الأولمبياد هو حفل من المفترض أن يتوجه للعالم أجمع، وليس فقط للباريسيين (أو بالأحرى لقسم منهم)، أو للفرنسيين (أو بالأحرى لقسم منهم)، أو للغرب (أو بالأحرى لقسم منه)، وأنّ بعض المشاهد/الموضوعات، كمعاداة رجال الدين (وهو ما كانت تشرحه، مفاخرة، الصحفية دافنيه بوركيه مباشرة على الهواء، وهي المعينة من قبل مخرج الحفل توما جولي، كمديرة لتصميم أزياء الحفل)، أو معاداة الدين، أو غيرها من الأمور الخلافية، التي تعد “طبيعية” تمامًا، ومقبولة جدا، بالنسبة للجمهور الباريسي أو الفرنسي بشكل عام، يمكن أن تكون صادمة بنظر ثقافات بلدان أخرى حول العالم (مشهد “العشاء الأخير” مثلا، وهو غيض من فيض)، وليس فقط بنظر اليمين المتطرف، وليس فقط بنظر اليمين المحافظ.

بالمحصلة، المفارقة أنّه بسبب نظرة منغلقة على الذات البرجوازية – البوهيمية الباريسي (الوسط الذي ينتمي إليه غالبا أعضاء اللجنة المنظمة للاحتفال)، الذي تدفعه عزلته النخبوية، وانفصاله عن الواقع، وما يتأتى عن ذلك من عجرفة، إلى الاعتقاد الخاطئ أنّه يمثل الكونية (أو العالمية)، افتقر حفل افتتاح أولمبياد باريس، نوعًا ما، للمدى الكوني/العالمي المفترض أن يعبر عنه. 

فمن عجيب المفارقات، أنه بسبب تحول الرغبة في إظهار “الانفتاح الذهني” أمام العالم، إلى هاجس، جاءت النتيجة عكسية، أي إلى إظهار نوع من الانغلاق والتقوقع على الذات الجمعي النخبوي، الذي يعتقد خطأ أنه يختصر العالم أجمع.

إنّ إظهار الاحترام للآخرين ليس عيبًا. عندما يكون من المفترض بك أن تخاطب العالم، فعليك أن تفعل ذلك ولو بقليل من التواضع، ولا سيما أن تكون مدركًا لحقيقة أنك لست العالم، بل جزء منه فقط. عندما يكون مطلوب منك أن تتوجه إلى العالم أجمع، عليك أن تفعل ذلك باحترام لأكبر عدد ممكن من البشر، ولا سيما مِن خلال تركيز خطابك (بالمعنى الواسع للكلمة، بما في ذلك الخطاب الرمزي) على القواسم المشتركة، على ما يؤلِّف بين البشر، على ما يجمع، على ما يوحِّد، وليس على ما يفرق، وما يقسّم، وما يستقطب.

لا يمكنك أن تطلب من الآخرين أن يحترموك، عندما تصر على ألا تحترمهم. لا يمكن إملاء الاحترام على الغير، بل يمكنك أن تلهم الغير بأن يحترموك، ولا سيما من خلال احترامك لهم (المعاملة بالمثل).

ربما هي مناسبة كي يفهم الجميع أخيرًا، في الغرب والشرق، أنه لم يعد مقبولًا، في عصرنا هذا، أن يملي جزء من العالم، على العالم كله، ما يجب أن يفكر به العالم أجمع، أو لا يفكر به، ما يجب أن يقبله العالم أجمع، أو لا يقبله، ما يجب أن يعجبه، أو لا يعجبه، ما يمكن أن يجرحه، وما لا يمكن أن يجرحه، ما يهينه، وما لا يهينه.

أيام “المهمة الحضارية للغرب” في تحضير الشعوب، التي كانت تشكل الغلاف التنمقي للاستعمار، قد انتهت، وقد حان الوقت كي يفهم الغرب، أو بالأحرى بعض الغرب، ذلك. اليوم، إنّ مركزية الغرب تتهاوى في العالم، ولا تنفع المكابرة أمام صعود عالم متعدد الأقطاب. وقد جاءت الاعتراضات الواسعة، حول العالم، على بعض ما جاء في حفل افتتاح أولمبياد باريس، كي تؤكد هذا التوجه.

“كيتش” وكليشيهات سياحية

وفي سياق متصل، هيمنت على الحفل عموما ثقافة الكيتش، كما عجَّ الحفل بالكليشيهات، خصوصًا السياحية، وبرمزية درجة أحيانًا، تفتقد إلى الرَّفَاهَة.

إنّ باريس هي غالبًا المدينة الأغنى ثقافيًا في العالم، وعلى الأرجح أجمل مدينة في الكون، فمن المجحف جدًا اختزالها هكذا بثقافة الكيتش، وتحويلها إلى نوع من معبد كبير للكيتش (حتى، بل ربما خصوصًا، إذا كان كيتشًا عبثيًا، مدركًا لكونه كيتش)، وما شاكله من ذوق رديء، وبشع، وأحيانًا مبتذل؛ أي الكيتش نفسه الذي كان الكاتب التشيكي الفرنسي، عاشق فرنسا، ميلان كونديرا، خير من فكَّكه، ولا سيما في رائعته “وجود لا تحتمل خفته,” وذلك خصوصًا بما يتعلق ببلدان المعسكر الاشتراكي، كتشيكوسلوفاكيا، التي هجرها كونديرا، وهجر بشاعة الكيتش فيها، للعيش في فرنسا والتنعم في ذوقها الرفيع.

كما أنّ باريس مدينة فكر، وعمق، وفلسفة، وتاريخ، وعلوم، ومسرح، وموسيقى، وسينما، ودور نشر، وفيها جامعات ومراكز أبحاث هي من الأفضل في العالم، مدينة تعج بالعالم أجمع وبثقافاته، ويضج بها العالم، مما يؤهلها لأن تكون خير مدينة يمكن أن تتوجه للعالم بفن و”لغة” فنية يفهمها. ولذلك فمن المؤسف جدًا اختصار باريس بمجموعة من المشهديات هي كناية عن كليشيهات سياحية، تليق بمحلات بيع الهدايا التذكارية التي تلتقط بعض السياح الغافلين، في محيط مونمارتر، أو برج إيفل، أو قوس النصر، أو بعض المتاحف، لبيعهم “تحف” وتذكارات فنية تدعي أنها باريسية، في حين أنها في الحقيقة من صنع الصين.

إنّ “الباريسية” (parisianité) ليست إطلاقا “الباريسيانية” (parisianisme: الفارغة، السطحية، المتقوقعة على ذاتها) التي أراد منظمو الحفل اختصار باريس بها، والتي قزَّمت باريس أمام أنظار العالم، وأعطته فكرة سطحية، مختزلة، مغلوطة عن باريس وثقافتها.

علاوة على ما تقدم، وفيما عدا القيم الأولمبية التي حاول الحفل التعبير عنها بطريقته (الخرقاء بعض الشيء)، كان من الصعب رؤية علاقة الحفل بالرياضة، وتحديدًا بالرياضات المختلفة، وبالألعاب الأولمبية. فإذا استثنينا مشهدية تتابع المشعل الأولمبي، فإن المشاهد العادي الذي كان سيشغل تلفازه ليلة الافتتاح، دون أن يعرف مسبقًا أن الألعاب الأولمبية ستقام في باريس، كان سيعتقد أن ما يشاهده هو نوع من مهرجان صيفي يقام في الهواء الطلق في العاصمة الفرنسية، دون أن يدرك أنه حفل افتتاح أولمبياد، أو حتى حفل يتعلق بالرياضة.

فضلا عن ذلك، فإنه على عكس الاحتفالات الافتتاحية السابقة، لم يكن الرياضيون، واستعراضهم، في مركز الاهتمام الأول، بل كانوا في موضع رديف ثانوي. ومن الواضح أن المنظمين لم يكترثوا كثيرا بالرياضيين، ولا بسقوط الأمطار التي غمرتهم، ولتعرضهم بالتالي لخطر الإصابة بالمرض قبل ساعات قليلة من بدء المسابقات.

ضرورة تحرير النقد من الاستقطاب

أما في فرنسا، حيث تضاربت التعليقات على حفل الافتتاح، إذ سارع رموز اليمين المتطرف لإدانته بكليته، دون أي دقة أو تفريق بين الإيجابيات والسلبيات، فلا بد من التأكيد أنه يجب الابتعاد عن اتخاذ موقف بشكل تلقائي من حفل افتتاح الأولمبياد، ما يذكر بنظريات العالم الروسي “بافلوف”، أي بعيدًا عن الاستقطاب والاصطفاف السياسي بين اليمين واليسار، وبعيدًا عن الحرب الثقافية الدائرة بينهما على امتداد بلدان الغرب، وعن الرغبة في “تمرُّك” على “المعسكر” السياسي الآخر، أو خوفًا من إمكانية مجاراته في بعض ما يمكن أن يذهب إليه.

من المهم تكوين رأي شخصي بشكل مستقل عن الانقسامات السياسية، خاصة وأن الحفل يتعلق بحدث يهدف إلى أن يكون غير سياسي، وأن يتجاوز الاستقطاب والانقسامات. ولذلك، حبذا لو تتحلى أصوات من اليسار، على سبيل المثال، بالشجاعة لانتقاد حفل افتتاح الألعاب الأولمبية علنًا، وذلك عندما تجد ما يستدعي النقد في الحفل، على الأقل في نقاط معينة، لا أن تكتفي بالصمت، أو أن تقول عكس ما تفكر به، فقط نكاية باليمين المتطرف.

فإذا لم يكن التفكير النقدي حكراً على اليسار، إلا أنّ التفكير اليساري تفكير نقدي أساسًا، ولا يجب ترك مجال التفكير النقدي لليمين المتطرف وحده إطلاقًا. وإلا، فالمخاطرة الكبيرة تكون في أن يعتقد بقية العالم، خطأ، أنه في فرنسا، اليمين المتطرف هو الوحيد القادر على التنبه إلى رداءة الذوق عندما تكون موجودة، أو ـ أسوأ من ذلك ـ أنّ لدى اليمين المتطرف ذوق جيِّد ومرهف!

إنّ باريس تعشق الحس النقدي، دون حدود، فإذا كان بعض الكيتش الذي تضمنه حفل الافتتاح يحتوي على نقد ذاتي، فباريس تحب نقد النقد، ولا تكتفي بالوقوف عند حدود نقد ضمني (باروديا) كي تصفق له بسذاجة المبهورين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى