مصالحة «فتح» و«حماس».. قراءة في إعلان بكين
العجز في التأثير في مُجريات الحرب، وتحديداً وقفها، دفع بكين إلى البحث عن مسألة حسّاسة وجوهرية وذات تأثير إقليمي ودولي، كالمصالحة الفلسطينية، سعياً وراء دور ما يُغطّي ضعف تأثيرها في مُجريات الحرب.
منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر (2023)، لم تتّخذ الصين أيّ موقف أحادي للضغط على إسرائيل، ولم تُقدّم أيّ مقترحات لها في مجلس الأمن لوقف الحرب كروسيا والبرازيل وغيرهما، واكتفت بتصريحات عمومية من نوع دعم الجهود الدولية. كان أبرز ما يُميّز دبلوماسيّتها الراهنة تبنّيها استراتيجيةَ تحويل المسؤولية، وخاصّة على مجلس الأمن، الذي اعتبرته المسؤول الأكبر عن تنفيذ “حلّ الدولتَين”، وإنهاء الصراع، واستئناف المفاوضات، وتسهيل المساعدات الإنسانية، ووقف الاستيطان. ورغم اتّخاذ المجلس قراراً بوقف الحرب، إلّا أنّه فشل في إلزام إسرائيل، الأمر الذي أظهر عدم فاعلية المجلس عموماً، والنهج الصيني على وجه التحديد موضع الحديث هنا.
العجز في التأثير في مُجريات الحرب، وتحديداً وقفها، دفع بكين إلى البحث عن مسألة حسّاسة وجوهرية وذات تأثير إقليمي ودولي، كالمصالحة الفلسطينية، سعياً وراء دور ما يُغطّي ضعف تأثيرها في مُجريات الحرب وفي أطرافها. يثير ذلك سؤالاً مُهمّاً: هل النشاط الصيني المُتعلّق بالمصالحة الفلسطينية يهدف إلى تحقيقها فعلاً، أمّ أنّه تعديل في السياسة الخارجية الصينية بعد فشل نهج تحويل المسؤولية، وخاصّة أنّه أظهر محدودية تأثيرها الفعلي سواء في الحرب أو في المؤسّسات الدولية؟
اقرأ ايضا| لقاء المصالحة الفلسطينية.. بلا «هنية»
لم تستطع الصين أن تُؤثّر في أكثر النزاعات الدولية أهمّية؛ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولا في أطرافه
دفعت هذه المحدودية الصين إلى البحث عن مدخل آخر للبقاء حيّة في الصراع، فكان الملفّ الأكثر جذباً بعد فشل مجلس الأمن في وقف الحرب هو إنهاء الانقسام الفلسطيني.
بعد الإعلان مباشرة عن توقيع الاتفاق، الاثنين الماضي (22/7/2024)، قالت المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، إنّ هدف بلادها “التوافق على الحكم في مرحلة ما بعد الصراع في غزّة، وتشكيل حكومة مصالحة وطنية مُؤقّتة، وأقوى التطلعات هو تحقيق الدولة المستقلّة الحقيقية لفلسطين”، معتبرة أنّ تحقيق الوحدة الوطنية هو أساس إقامة الدولة الفلسطينية. تصريحات الصين، وتوسّطها بين الفصائل، يضعانا أيضاً أمام تساؤلات إضافية، بعضها يدور حول مركزية إنهاء الانقسام لمواجهة إسرائيل.
سوف يتّفق كثيرون من الفلسطينيين على أنّ الوحدة الفلسطينية أساس للوقوف ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، لكن سوف يختلف كثيرون مع التقدير الصيني بشأن اعتبار هذه الوحدة العائق أمام إقامة الدولة، والتغاضي عن العوامل الأخرى الأكثر أهمّية وخاصة إسرائيل. ما هي الحكمة الصينية من التحوّل إلى هذه النقطة تحديداً، تحقيق التوافق الفلسطيني الداخلي؟ ولماذا لم تبدأ بكين في التدخّل في الصراع من نقطة أخرى؟ مثلاً، ألم يكن من الأولى للصين تطبيق دعمها المُعلَن للفلسطينيين عبر الضغط على إسرائيل على نحو حقيقي؟ أو في الأقلّ التوسّط بين فلسطين وإسرائيل، أو بالأحرى الضغط على الأخيرة؟ أو التوسّط بين أميركا وإسرائيل من جهة، وفلسطين من جهة ثانية، لإقامة الدولة، وليس التوسّط بين الفصائل؟… تأتي هذه التأملات وفي خلفيتها سؤال كبير، إذا افترضنا جدلاً أنّ الاتفاق نجح وشكّلت الحكومة المُؤقّتة، هل تمتلك الفصائل القدرة على وقف الحرب وإقامة الدولة الفلسطينية، كما قالت الصين؟ لماذا اختارت الصين اللجوء إلى الوساطة بين الفصائل الفلسطينية؟
يعود تعديل الصين سياستها، ولجوؤها إلى ملفّ المصالحة الفلسطينية، إلى ثلاثة أسباب رئيسة. الأول، فشل استراتيجية تحوّل المسؤولية، كما ذُكِر، والتي أظهرت تأثيرها المحدود في الحرب وفي الأطراف، وفي المؤسّسات الدولية، الأمر الذي انعكس بشكل كبير في فاعلية الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط ككلّ. وبالتالي، جاء ملفّ المصالحة مدخلاً رئيساً آخر للصين ليبقى لها دور حيّ في الصراع، حتّى لو لم يُنفّذ الاتفاق.
ويتعلق السبب الثاني بصورتها الدولية. فرغم وعي الصين بأنّ السلطة الفلسطينية لا تمتلك السيادة على قراراتها، وخاصّة في ملفّ المصالحة، بسبب الفيتو الأميركي الإسرائيلي، إلّا أنّ تدخّلها يعزّز نسبياً من صورتها دولةً راعيةً للسلام. منذ تبنّي الصين سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، كان هدفها الرئيس بناء صورة إيجابية مغايرة تفوق أخلاقياً صورة الغرب، وخاصّة صورة واشنطن.
وبالتالي، ليس نجاح إنفاذ الاتّفاق المُهمّ هنا، لأنّ الصين تعلم أنّ النتائج لن تكون إيجابيه، المُهمّ هو الدخول في العملية. وبالتالي، الاستفادة القصوى من الأحداث لمراكمة مكاسب صغيرة ثابتة تظهر نتائجها مستقبلاً. وبذلك، تضيف الصين ملفّ الانقسام إلى صعودها لتعزيز صورتها، ما سيُحدث زخماً إيجابيأً حول الصين مُحفّزاً دولاً أخرى على التحوّل من البيت الأبيض إلى قاعة الشعب الكبرى، واللجوء إليها للتوسّط لحلّ النزاعات.
يتعلق السبب الأخير بالعلاقات الصينية – الإسرائيلية، ويأتي استكمالاً لسياسة الصين خلال الحرب، التي تجنّبت فيها أيّ مواجهة مباشرة مع إسرائيل. مُؤشّرات عدّة تثبت ذلك، أولها أنّ كلّ ما دعت إليه الصين خلال الحرب لا يختلف عمّا دعت إليه الدول الأخرى، خاصّة الغربية، في سياق دعم حلّ الدولتَين ووقف الحرب. بل يمكن اعتبار سقف موقفها أدنى بكثير من مواقف لا توازيها من ناحية القوّة والمكانة الدولية والتأثير. لم تلجأ الصين مثلاً إلى مواجهة إسرائيل بالانضمام إلى الدول التي تحاكم إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، ولم تقطع علاقاتها مع إسرائيل أو تطرد سفيرها كما فعلت مثلاً بوليفيا وكولومبيا وجنوب أفريقيا والبرازيل وتشيلي. حتّى إنّ الصين لم تستدعِ السفير الإسرائيلي كما هو حال هندوراس وتشاد، وغيرهما.
وأخيراً، تجاهلت الصين كلّياً عسكرة واشنطن لإسرائيل خلال الحرب في تصريحاتها وفي وثيقتها، التي نشرتها في إبريل/ نيسان الماضي، عن تاريخ المساعدات الخارجية الأميركية المالية والعسكرية، منذ أربعينيّات القرن الماضي، وتسبّبها في كوارث إنسانية ودولية قوضت الأمن والاستقرار الدوليَين. والمثير هنا أنّ الصين نجحت فعلياً في تجنّب إسرائيل، فقد كان موقف الأخيرة الرسمي من “إعلان بكين” ضدّ السلطة وحركة حماس مجتمعَين، وبعيداً تماماً عن انتقاد الصين ودورها.
في هذا السياق، انتقد وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس، الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لتوقيع اتفاق وحدة مع حركة حماس، وقال: “حماس وفتح وقّعتا اتفاقية في الصين للسيطرة المشتركة على غزّة بعد الحرب، وهذا لن يحدًث في الواقع… حكم حماس سيُسحق ومحمود عبّاس سيراقب غزّة من بعيد”.
يلاحظ أنّ الدبلوماسية الصينية تجاه الحرب مركّبة ومتناقضة، في سياق تحدّيها واشنطن، فقد اقتربت من واشنطن في بعض المسائل، مثل المطالبة بتحرير الأسرى الإسرائيليين من دون قيد أو شرط، وامتنعت عن استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية”، وتجاهلت ملفّ الأسرى الفلسطينيين، وتجنبت انتقاد عسكرة إسرائيل. في الوقت نفسه، ابتعدت عن واشنطن في بعض المسائل، مثل المطالبة بوقف إطلاق النار وترتيبات ما بعد الحرب، فسارعت إلى التوسّط بين الفصائل الفلسطينية مشيرةً إلى أنّ الفلسطيني هو الوحيد الذي يحقّ له تقرير مصيره فيما يتعلّق باليوم التالي للحرب.
ملاحظة أخرى، ومثيرة أيضاً، أنّ الصين، الدولة الصاعدة والمنافس الوحيد للهيمنة الأميركية، لم تستطع أن تُؤثّر في أكثر النزاعات الدولية أهمّية، الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولا في أطرافه. على صعيد العلاقات الثنائية – الإسرائيلية، تحظى الأخيرة بأهمّية، إن لم تكن أولوية، في استراتيجية الصين الإقليمية. فهي الدولة الإقليمية الوحيدة والثانية دولياً بعد الولايات المتّحدة، التي تمتلك أربع قنصليات وسفارة في الصين. وأيضاً، هي الأولى إقليميا والثانية دولياً بعد روسيا الاتحادية، التي سمحت لها الصين بافتتاح فرع جامعي مستقلّ في أراضيها.
ونضيف إلى ذلك، أنّها الشريك الثقافي الأكبر للصين في الإقليم مقارنةً بباقي الدول، وتُصنَّف الصين أكبر شريك اقتصادي لإسرائيل في آسيا. وعلى صعيد الصراع، قدّمت الصين خدمات هائلة للاحتلال، فشرعنت الاستيطان عبر الاستثمار المباشر فيه، وتبنّت العقيدة الصهيونية، ودعمت التطبيع العربي، واستبعدت إسرائيل في سياق منافستها مع واشنطن. وذلك كلّه، لم يُحدِث أيّ تأثير صيني يذكر في سياسة إسرائيل خلال الحرب. وينطبق ذلك على الفلسطينيين، فبرغم توقيع “إعلان بكين”، إلّا أنّ تأثير الصين في السلطة يبقى محدوداً. فلم تكن السلطة لتذهب إلى بكين لولا تزايد احتمالات نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية المُقبلة. وما يُؤكّد ذلك، رفضها المشاركة في اللقاء الموسّع الذي كان سيعقد في يونيو/ حزيران الماضي في بكين، مُعتقدة أنّ إدارة بايدن تسعى إلى أن تُقدّم لها شيئاً ما.
وبغض النظر عن نيات الصين وأهدافها البراغماتية وراء “إعلان بكين”، فإنّ ما تقوم به يخدم الفلسطينيين بطرائق مختلفة. أولاً، كسر العزلة التي فرضتها واشنطن والغرب على حركة حماس، وتعزيز شرعيتها قائداً فعلياً للمقاومة الفلسطينية، وجزءاً لا يتجزّأ من الحركة الوطنية الفلسطينية. ثانياً، الاستفادة القصوى من الأشهر التي تسبق الانتخابات الأميركية، عبر قيام السلطة بإشعار إدارة بايدن بأنّها ستلجأ إلى أطراف دولية أخرى ومنافسة لواشنطن، وقد نجحت هذه السياسة سابقاً، ومن الممكن أن تحقّق شيئاً ما اليوم. ثالثاً، التركيز الصيني على الملفّ الفلسطيني، وحتّى لو لم يكن له ترجمة واقعية، يعطي زخماً دولياً كبيراً، ويُبقي فلسطين في الواجهة، وخاصّة في ظلّ الانشغال الدولي اليوم بالانتخابات الرئاسية الأميركية.
رابعاً، استغلال الفصائل للتقارب الصيني معهم، ومحاولة طرح قضايا رئيسة تتعلّق مثلاً بالطلب المباشر من الصين بوقف استثماراتها في المستوطنات الإسرائيلية. ومن الممكن أيضاً، أن ترفع الفصائل سقفها عبر دعوة الصين لإعادة تقييم مواقفها وتصريحاتها تجاه قضايا الصراع الرئيسة، وفي رأسها يهودية الدولة الإسرائيلية.
تعليق واحد