صحافة المنفى السورية.. سيناريوهات الانسحاب
صحفيو الشتات ليسوا أنفسهم صحفيي المنفى، فالفئة الأولى (الشتات) تشير إلى كل من هم خارج بلادهم لأسباب متعددة، اقتصادية، سياسية، اجتماعية، أما الفئة الثانية (المنفى) فتشير إلى الصحفيين الذي خرجوا من بلادهم تحت ضغط الملاحقة لأسباب أمنية وسياسية، أو أنهم معرضون لتهديدات بالتصفية أو حجز الحرية أو الإيذاء الجسدي والنفسي بسبب أدائهم للمهنة.
تمر صحافة المنفى في سوريا بأصعب أوقاتها، وهي مهددة بالتراجع لمصلحة قسم مبرمج من صحافة الشتات، والمؤثرين على “السوشيال ميديا”، أو أنها ستنتج شكلًا جديدًا يعتمد على فكرة المواطن الصحفي المنفي، وفي هذا مخاطرة لها عواقبها المهنية.
ليس كل صحفي شتات هو صحفي منفى، لكن كل صحفي منفى يمكن أن ينتمي إلى الشتات، وينسحب هذا على الصحف ووسائل الإعلام.
تتركز مهمة صحافة المنفى في تقديم رواية مختلفة لتلك التي يقدمها أصحاب السلطة، أو القوى المتحكمة داخل بلدانهم الأصلية، وليس بالضرورة أن تتطابق رؤى صحافة المنفى فيما بينها، لأن التنوع وتعدد الآراء هو الدافع الأول للخروج إلى المنفى، وهذا التنوع يجب أن يحترم خصوصية المجموعات، وأن يبتعد عن خطاب التحريض والكراهية، وأن يعمل في إطار المعايير المهنية.
المهمة الأعقد لصحفيي المنفى السوريين تتركز في ثلاثة جوانب، الأول الوصول إلى المعلومة والتغطية المتوازنة والصادقة، والثاني هو كيفية تجميع فريق متكامل يعمل كمجموعة بمفهوم مؤسسة في الوقت الذي ينتشرون فيه بدول متعددة أو مناطق مختلفة داخل تلك الدول.
العنصر الثالث هو الأمن المادي الذي يضمن أداء المهمة، وهذه العناصر تبقى تهدد عمل الصحافة المستقلة خارج الجغرافيا، ونقصد بها الصحافة التي تغطي قضايا بلدان من بلدان أخرى، وتلتزم بنهج غير مرتبط بأجندات سياسية أو دوافع اقتصادية.
في الحالة السورية، هناك وسائل تعمل في الشتات، وبينها مجموعة مستقلة من الأفراد والمؤسسات، ومع تصاعد أعداد الصحفيين المنفيين وانحسار عدد المؤسسات المستقلة، تبرز مشكلة تراجع الاهتمام العالمي بالقضية السورية، أو التحولات السياسية التي تغير في الموقف والدعم.
لم تتمكن مؤسسة سورية واحدة مستقلة ومنفية خارج البلاد من تأمين استقرار مالي طوال سنوات الصراع، وهناك أسباب موضوعية ونتائج كارثية لانعدام الاستقرار المالي.
تعرف الصحافة بأنها منتج ذو كلف مرتفعة، رأسماله المهنيون، ومنتجاته ترتبط بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، وبالجمهور وصانعي القرار، لكنها تحتاج إلى سنوات طويلة لتحقيق الأثر.
غالبًا ما يتعرض نموذج الصحافة الممولة من منظمات داعمة للديمقراطية والحريات لضغط دافعي الضرائب، فهم في النهاية بشر، ينتمون إلى تيارات أو أحزاب أو يميلون إليها، وهم يتأثرون بأزمات الاقتصاد والحروب، ويبنون آراءهم وفقًا لما يضمن استقرارهم قبل قرارهم الأخلاقي بدفع المال من أجل الحرية ومن أجل الإنسان.
بالمقابل، هناك صحافة شتات يمولها مانح حكومي، بواجهات مختلفة، لكنها يمكن أن تتحول أو تتوقف في أي لحظة، وكوادرها قسم منهم تتقاطع توجهاتهم مع هذه الصحافة في جانب معيّن، وقسم يبحث عن الفرصة ولا تهمه التوجهات ولا التحولات، لكن كلا النوعين يخضع لشروط ولعبة المانح وسياساته وتطورات موقفه تجاه الخصم الذي دفعه لتأسيس أو دعم مثل تلك المؤسسات.
مع موجة الانسحاب العالمية من القضايا الأخلاقية تحت ضغط الحرب، تُسأل إدارات المؤسسات الإعلامية المستقلة المنفية، والممولة من دافعي الضرائب هذه الأيام، ماذا لو توقف التمويل؟ هل تستطيعون الاستمرار؟ ماذا ستفعلون؟ أزعم أن تلك الإدارات تواجه هذه الأسئلة بإجابات أخلاقية تفيد بالإصرار على الاستمرار تطوعًا، وهي إجابات عاطفية فحسب.
في لحظة حقيقة، يمكن القول إن تلك المؤسسات لن تتمكن من الاستمرار، وأمامها ثلاثة سيناريوهات، أولها أن تغير اتجاهات تغطيتها لجذب مانحين على طريقة الصحافة الممولة من حكومات أخرى، الثاني أن تتحول إلى إعلام مشاريع داخل الدول التي توجد فيها، كأن تركز على برامج الاندماج أو قضايا اللاجئين أو تنخرط في أعمال تشبه النشاط التجاري الإعلاني، وهذا يتطلب محتوى جاذبًا ورماديًا بلا رسائل وقضايا.
السيناريو الثالث، هو الاستمرار بالحد الأدنى ببضعة أفراد قبل أن تتعب وتتوقف، أو أن تتوقف بشكل مباشر.
دون السيناريوهات الثلاثة السابقة، كل حديث عن تخلي الصحافة الحرة المسؤولة والصحفيين المستقلين عن المهمة، هو مجرد استعراض وابتزاز أخلاقي.
كل صحفي عاطل عن العمل يمكنه أن يؤدي رسالة أخلاقية كفرد داخل بيته أو مجتمعه أو في الفضاء الافتراضي، لكنه لن يكون جزءًا من مؤسسة حقيقية لها تقاليدها المهنية وسياستها التحريرية الراسخة، وبالتالي لا مكان لثقافة التبرع عندما نتحدث عن معركة طويلة من أجل إعلام حرّ، مسؤول، ومستقل.
في سوريا كمصطلح اجتماعي بشري، في الداخل والخارج، لم تتولد فكرة دفع قيمة الجمهور لما يقرأ ويشاهد للوسيلة التي تقدم المحتوى، على الرغم من أنه يدفع لوسائل التواصل، وشبكات الإنترنت، والتطبيقات، فكثيرون لديهم اشتراكات مدفوعة في منصة “إكس”، أو يدفعون المال لشراء الألعاب الإلكترونية، لكنهم لا يدفعون من أجل المعلومة العامة أو الحصرية، كما أن رأس المال السوري يستثمر في غير الإعلام المستقل، إلا باستثناءات.
إقرأ أيضا : لهذه الأسباب يفضل أردوغان عودة ترامب إلى البيت الأبيض ..
إن انسحاب مال الديمقراطيات القادم من دافعي الضرائب، الشحيح، أو تحوله من مكان إلى مكان، يضع الإعلام المستقل في مأزق غير مسبوق، والحال في سوريا ينطبق على ذلك الاحتمال.
أصحاب المصالح، السلطة، السياسيون، المتنفذون، رأس المال، الفاسدون، لا أحد في العالم من هؤلاء يحب الصحافة المستقلة، حتى في دول تحميها الديمقراطية والقوانين، هناك محاولات حثيثة للتخلص من صحافة الحقيقة، المزعجة، كما أن هناك “هوامير” تسيطر على الإعلام الخاص، لتربح الإعلانات وتؤمّن مصالح مشتركة مع صانعي القرار والأحزاب، فكيف يمكن لصحافة منفية، وجذورها على السطح، أن تنافس في هذه البيئات.
لقد عملت برامج تثبيت الاستقرار والحوكمة على فكرة بناء مؤسسة بدل الجهود الفردية لسنوات، وهي فكرة سديدة، ثم بعد أن ظهرت ملامح المؤسسات بدأ الانسحاب تحت ضغط المانح نفسه.
ملاحظة: هذا المقال لا يتعلق بمدح أو ذمّ مال الديمقراطيات، فما قدمته للإعلام المستقل كان يتوخى أهدافًا نبيلة، ونتائجه هي المحتوى وليس خطابات الشكر.. وللحديث بقية.