أوروبا

خطر اليمين المتطرف الفرنسي لا يزال قائما رغم فشله في الانتخابات

هل دحض فوز اليسار في الانتخابات الفرنسية خطر اليمين المتطرف مستقبلاً؟

إذا كان هناك من يشعر بالإحباط أكثر من التجمع الوطني اليميني المتطرف الفرنسي Rassemblement National RN، بسبب نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، فهم أولئك الذين كانوا في أوقات ماضية جوقة المراقبين المبشرين بنهاية العالم، والموجودين في الضفة الأخرى من القنال [الإنجليزي]، والمحرومين اليوم من فرصتهم للتنديد بالفرنسيين الخطرين والمضللين.

فمن أول مسح لاقتراع الناخبين عند خروجهم من مراكز التصويت وصولاً إلى صدور النتائج النهائية، كانت نبرة كثير من المحللين المتحدثين باللغة الإنجليزية تعكس الصدمة والخوف من احتمال عودة نظام شبيه بنظام فيشي الماضي المكروه في هذه المرحلة.

وفي فرنسا نفسها، كانت ردود الفعل الأكثر انتشاراً ــ خارج صفوف حزب التجمع الوطني ـــ بمثابة تنفس الصعداء، وارتياح بأن التكتيك القديم والمجرب الذي يطلق عليه “الجبهة الجمهورية”، إذ يقوم تيار الوسطية السياسي إضافة إلى تيار اليسار بتوحيد صفوفهم لإقامة حاجز صد في وجه تيار اليمين المتطرف، واحتمالية وصوله إلى السلطة. وقد كتب لهذا التكتيك النجاح مرة جديدة.

والسابقة الأكثر شهرة في اللجوء إلى مثل هذا التكتيك كانت إبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2002، عندما كان اليمين المتطرف وحزبه الجبهة الوطنية، الذي كان يترأسه آنذاك والد مارين لوبن Marine Le Pen، جان ماري Jean-Marie، الذي نجح في دفع الاشتراكيين للحلول في المركز الثالث، ولكن ذلك لم يؤد إلا إلى إلحاق هزيمة شنيعة به على يد الرئيس في حينها جاك شيراك، الذي نجح في الفوز بـ80 في المئة من الأصوات.

ونجحت نتائج الانتخابات التي جرت في عطلة نهاية الأسبوع الماضية في وضع التحالف اليساري، الجبهة الشعبية الجديدة New Popular Front NPF، بقيادة جان لوك ميلونشون Jean-Luc Melenchon، في المرتبة الأولى بحصوله على 182 مقعداً برلمانياً.

أما تجمع الرئيس إيمانويل ماكرون “معاً” Ensemble، فحل في المرتبة الثانية حاصداً 168 مقعداً نيابياً، ليحل حزب مارين لوبن التجمع الوطني في المرتبة الثالثة مع 143 مقعداً نيابياً.

وقلبت الأرقام استطلاعات الرأي التي أجريت طوال فترة الأسبوع الذي فصل بين الدورة الأولى والثانية من هذه الانتخابات، وشهدت عدم تمكن حزب التجمع الوطني من تحقيق الغالبية المطلقة التي كان يأمل بها، لكنه تنافس عن قرب مع الجبهة الشعبية الجديدة NPF، كي يفوز بأعلى نسبة ممكنة من المقاعد.

لكن وعلى رغم أن حزب التجمع الوطني قد هزم واحتل المرتبة الثالثة، فإن الأمر شكل صدمة بالنسبة إلى الجميع، ولكن رحب به كثر، وهم ليسوا قلة. وقد عبر رئيس حزب التجمع الوطني الشاب جوردان بارديلا Jordan Bardella الذي كان يأمل بأن يشغل منصب رئيس الوزراء عن أسف حزبه وشعوره بالإحباط بسبب الفشل [في تحقيق النتائج المرجوة].

وتحولت فعاليات الاحتفالات التي كان قد جرى الإعداد لها إلى مجلس عزاء. إلى الدرجة أن الناخبين الفرنسيين نجحوا في تحدي توقعات استطلاعات الرأي من أجل إبقاء تيار اليمين المتطرف خارج الحكومة، مما يعني أن فرنسا قد نجحت في إنقاذ شرفها في أوروبا، وفي كل دول العالم حيث ينظر إلى اليمين المتطرف بأنه نوع من التيار القومي الذي يشكل تهديداً.

في الوقت نفسه، لا بد لنا من الاعتراف بأن أحلام حزب التجمع الوطني في الفوز بغالبية كاملة في البرلمان الفرنسي الجديد لم تكن لتتحقق من الأساس. إن أرقام الدورة الانتخابية الأولى كانت تشير إلى استحواذ الحزب على الثلث فقط من أصوات الناخبين، وأرقام الانتخابات العامة السابقة تشير إلى أن أرقام نتائج الدورة الأولى تمثل بشكل عام أعلى نقطة في سلم إنجازات تيار اليمين المتطرف، وذلك إذا ما كانوا ليطلقوا على أنفسهم اسم الجبهة الوطنية National Front، أو حزب التجمع الوطني ــ وهي النسخة المطهرة من حزب والد مارين لوبن، بعد تجريد الحزب من مواقفه العلنية المعادية للأجانب وتلك المناهضة للاتحاد الأوروبي.

أما عن السبب وراء التغير الكبير في الآراء خلال الأيام السبعة التي فصلت بين دورتي الانتخابات تلك، فقد قدم المعلقون الفرنسيون عدداً من التفسيرات، ومنها خوف الناخبين من المجهول، وارتفاع نسبة الأدلة حول غياب الخبرة السياسية لدى حزب التجمع الوطني، عندما بدأ الحزب في الحديث عن تسلم زمام السلطة، إضافة إلى قلق تتشارك فيه شريحة كبيرة من الفرنسيين عن الأضرار المحتملة التي قد تصيب مكانة فرنسا العالمية [لو تسلم المتطرفون الحكم].

إذاً، ما وضع السياسة الفرنسية بعد تلك الانتخابات، خصوصاً موقع الرئيس ماكرون على وجه التحديد؟ إنها أسئلة لا تتعلق بمسألة فشل حزب التجمع الوطني في الانتخابات. ربما نجح الرئيس ماكرون في تفادي السيناريو الأسوأ بعد قيامه بالدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة في مساعيه للرد على الضربات التي تلقاها حزبه “معاً”، على يد حزب التجمع الوطني [اليميني المتطرف] في انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي.

وماكرون كان قد برهن ــ في الأقل في الوقت الراهن ــ إلى أي درجة يبقى اليمين المتطرف بعيداً من القدرة على تسلم زمام السلطة، وهو ما من شأنه أن يطمئن شركاء فرنسا في الحلف الأطلسي، إضافة إلى الدول المجاورة لها، ومن ضمنها المملكة المتحدة. لكن هذه النتائج لا تبدو أنه سيكون لها التأثير المطلوب بتحصين الناخب الفرنسي ضد جاذبية اليمين المتطرف في المستقبل، كما كان يتمنى ربما.

كما أنه لن يكون من شأن تلك النتائج أن تجعل من فرنسا بلداً يمكن إدارته بشكل أسهل. يبدو اليوم الرئيس ماكرون سجين برلمان معلق لمدة عام في الأقل ــ وهي مدة طويلة لأنه عليه أن ينتظر وفق الدستور الفرنسي انقضاء مثل تلك الفترة قبل أن يتمكن من الدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة. وهو يواجه أيضاً نوعاً محدداً من البرلمانات المعلقة، الذي تبدو مقاعده موزعة بين ثلاثة تيارات، على رأسها التجمع المعارض الرئيس الذي يميل إلى تيار اليسار، أي الجبهة الشعبية الجديدة NPF، التي هي بمثابة تحالف فرضته الضرورة، ويبقى هشاً، إذا كنا لا نريد أن نبالغ هنا.

عندما قام جان لوك ميلانشون في استخدام خطاب النصر الذي ألقاه لدعوة تيار اليمين إلى تشكيل حكومة جديدة، كان يبالغ إلى حد كبير. رئيس الوزراء في حكومة ماكرون ابن الـ32 من العمر، غابريال أتال، الذي لم يمض على وجوده في منصبه إلا سبعة أشهر، كان قد قام بالخطوة الصحيحة عبر تقديم استقالته، وحالياً يواجه ماكرون صعوبة تشكيل حكومة جديدة من شأنها أن تعكس تشكيلة مجلس البرلمان الفرنسي الجديد.

لكن، يبدو أي أمل في أن تكون الحكومة المقبلة أكثر استقراراً من الحكومة التي سبقتها أمر غير واقعي تماماً. ومن المحتمل أن يجد الرئيس ماكرون أن مساعيه للمصادقة على تشريعات جديدة من شأنها أن تكون أصعب من السابق، من خلال كون بعض أكثر مشاريع القوانين التي يتمسك بها، وهي تشريعات ضرورية توصل إليها كإصلاحات بعد كفاح كبير، مثل قانون رفع سن التقاعد في البلاد، قد تكون من بين القوانين المستهدفة ليتم إلغاؤها [من قبل أعضاء البرلمان الجدد].

إن نتائج الدورة الانتخابية الأولى التي أظهرت تصدر حزب التجمع الوطني في الاستطلاعات، ولكن حكمت بأنه من غير المتوقع حصوله على الغالبية، حفزت الأسواق المالية العالمية على الارتفاع. لكن رد فعل الأسواق لم يكن بهذه الحماسة بعد الدورة الثانية.

ربما نجح الرئيس ماكرون في تفادي أسوأ السيناريوهات، أي وصول حكومة يتزعمها اليمين المتطرف الفرنسي إلى السلطة والتي كان من شأنها أن تدفع إلى ضرورة تقديمه استقالته، لكن لا يمكن القول إن ذلك الخطر قد زال تماماً، وهو قد يواجه عاماً معكراً قد يكون غير فعال تماماً. إن رهان الرئيس ماكرون، بحسب ما كان يأمل، قد فشل في إمكانية تدعيم موقفه [من خلال الانتخابات المبكرة]، ولكن النتائج لم تأت بالصورة المدمرة التي كانت متوقعة بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى فرنسا كما كان يتخوف. لكن على تيار اليسار الفرنسي ألا يبتهج من جانبه أيضاً بهذه السرعة.

من المحتمل أن تيار اليسار قد نجح في احتلال المركز الأول هذه المرة، لكن تحالف الضرورة الذي تم تشكيله من أجل غاية وحيدة، وهي إلحاق الهزيمة بحزب التجمع الوطني، هو أبعد ما يكون عن قدرته على الصمود. ربما يكون الرئيس ماكرون قد استدرج تيار اليمين المتطرف نحو الفشل، لكنه ربما قد نجح أيضاً في إقامة العوائق في وجه تيار اليسار، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027. كما أنه لا يجب التقليل من قدرة الفريق الذي حل ثالثاً في الانتخابات على العرقلة من جانب أعضائه في البرلمان.

ثمة غضب حقيقي في أوساط تيار اليمين المتطرف الذي يتحدر غالبية أنصاره بشكل أساسي من أبناء الأرياف الفرنسية وفقراء المدن. وللمرة الألف، كما ستبدو الصورة من وجهة نظرهم، لقد تم إقصاؤهم من الوصول إلى السلطة بسبب خداع أبناء الطبقة الوسطى من أبناء المدن، إضافة إلى طبقة النخبة في البلاد. “لا تدعوهم يسرقون انتصاركم”، كانت العبارات التي قالها زعماء حزب التجمع الوطني لمناصريهم عشية صدور النتائج، لكن هكذا تماماً، ستكون كيفية نظر أنصار اليمين إلى ما جرى في تلك الانتخابات.

إن الخطر بالنسبة إلى الرئيس ماكرون، وبالنسبة إلى فرنسا حالياً، هو أن ذلك الشعور بالاستياء يمكنه أن يجد طريقة ليتم التعبير عنه في الشارع الفرنسي، بشكل يشبه ربما عودة احتجاجات حركة ذوي السترات الصفراء gilets jaunes، التي عرقلت الحياة في فرنسا على مدى ثلاث سنوات قبل أن تتلاشى تماماً تزامناً مع انتشار جائحة كورونا.

إن تحدي الرئيس إيمانويل ماكرون القاسي لليمين المتطرف بعد انتخابات الاتحاد الأوروبي كان له ثمن تم دفعه بعملة الاستقرار السياسي في فرنسا، و[اهتزاز] مكانة الرئيس نفسه، و[اهتزاز] الهيبة الفرنسية في الخارج.

لكن، وحتى الآن، إن الثمن يبدو أقل مما كان يمكن أن يكون، حتى وإن كانت إمكانية فك تحالف تيار اليسار تعني أنه من الممكن أن تكون فرنسا على موعد مع مزيد ومزيد من الأثمان التي سيجب عليها دفعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى