أبعد من رئاسة بزشكيان… مجتمع متغير ونظام جامد
المفارقة أن الشعب صار يفهم النظام كما هو خارج الخطاب الديني، في حين يعجز النظام والتيارات فيه عن فهم الشعب
صيف إيران الحار جاءته نسمة باردة تخفف من حرارته. ولا شيء بالصدفة في الجمهورية الإسلامية إذ تأتي السلطة من فوق، وتلون نفسها بما تقدمه صناديق الاقتراع من تحت. لا ثنائية أصولي – معتدل تحت سقف الأحادية المتجسدة في الولي الفقيه، ولا ثنائية الشرعيات مع التسليم بأن “الشرعية الشعبية” في خدمة “الشرعية الإلهية”.
ولعل أكثر ما يحتاج إليه الإيرانيون اليوم هو جراح قلب مثل مسعود بزشكيان يتولى رئاسة الجمهورية، فالتيار الأصولي قاد البلاد إلى مركز قوي ودور مهم في المنطقة ومع الكبار في العالم، وركز على بناء القوة العسكرية في الداخل وتسليح ما وصفها الجنرال علي غلام رشيد بأنها “سبعة جيوش في الخارج تدافع عنا، وهي الجيش السوري والحشد الشعبي و’حزب الله‘ و’حماس‘ والجهاد الإسلامي والحوثيون والزينبيون ومعهم الفاطميون”.
وكان إنتاج الصواريخ والمسيرات كثيفاً إلى حد توزيعها على الفصائل في “محور المقاومة” ومد روسيا بها من أجل حرب أوكرانيا. وكأن ما وعد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف بإنتاجه “مثل المقانق” وهو الصواريخ تحقق على يد الجمهورية الإسلامية، لكن إيران القوية عسكرياً والتي تدير استراتيجية “وحدة الساحات” في حرب غزة متعبة اقتصادياً ومحتقنة اجتماعياً، أقله منذ وفاة الفتاة مهسا أميني التي اعتقلتها “الشرطة الأخلاقية” بحجة أن خصلة من شعرها تدلت من تحت الحجاب، فالتظاهرات عمت المناطق احتجاجاً على القيود تحت شعار “امرأة، حياة، حرية” وقوبلت بالعنف. لا بل إن زوجين رقصا أمام برج أزادي في طهران فجرى الحكم عليهما بالسجن 10 أعوام و10 أشهر بتهمة “التشجيع على الفساد وممارسة الفحشاء والإخلال بالأمن القومي”، حتى المتخصص في مجال العلوم السياسية في جامعة طهران صادق زيبا كلام اعتقله البوليس على الطريق إلى معرض الكتاب لتوقيع كتابه الجديد، تحت عنوان “لماذا لا يعتقلونك؟ وماذا يحدث في نهاية المطاف؟”.
ذلك أن مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخميني كان همه الحفاظ على النظام وتقويته ونشر الثورة في المنطقة على يد الحرس الثوري المكلف بهذا الأمر بنص في الدستور. وحين قال له بعض مساعديه إن الناس يشكون من الغلاء فإنه رد بقوله “هذه الثورة ليست من أجل سعر البطيخ”.
إيران واغتنام لحظة التفاوض
والمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي يعتقد أن “محاولات القضاء على النظام هي بسبب الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية التي أخرجت المنطقة المهمة والمملوءة بالفوائد من قبضة الغرب”. وهو يطلب دائماً أن تكون نسبة التصويت في الانتخابات عالية للرد على الأعداء الذين “يخافون من قوة الشعب الإيراني ويرونها في الانتخابات”. ومن هنا كان السماح لمعتدل واحد لا يخيف أحداً هو مسعود بزشكيان بخوض الانتخابات الرئاسية، لرفع معدل التصويت. فلا علي لاريجاني ولا أي مثيل له مر من غربال مجلس صيانة الدستور، لكن نجاحه كان مفاجأة يستطيع خامنئي توظيفها في أمرين، أولهما التركيز على الاقتصاد الذي اعترف المرشد الأعلى أخيراً بأنه المشكلة الكبيرة في إيران، وثانيهما تنفيس الاحتقان الاجتماعي عبر التخفيف من القيود التي تكبل المرأة خصوصاً. وهناك من يتصور أن خامنئي هو “مهندس” هذه النتيجة التي تخدم المشروع الإيراني في هذه المرحلة.
كيف؟ المرشح الأصولي المنافس سعيد جليلي وهو مقرب من المرشد الأعلى يتمسك بأفكار تزيد من ضعف الاقتصاد، هو أولاً ضد أي اتفاق نووي، وثانياً يرفض التفاوض مع الغرب لرفع العقوبات ويرى في العقوبات “ضرورة وفائدة” لإيران، لأن مواجهة العقوبات تقود إلى “إنتاج صناعة وطنية بديلة” كما أنها أسهمت في فتح الباب أمام إيران نحو العلاقات الاستراتيجية مع الصين وروسيا. أما بزشكيان فإن برنامجه يتضمن التفاوض مع الغرب لتخفيف العقوبات الاقتصادية، وهو يعتقد أن العقوبات إلى جانب الفساد الإداري هي السبب الأساس وراء الضعف الاقتصادي، فما معنى حيازة أكبر كمية من الصواريخ من دون أن يكون في السوق دجاج وبيض؟ أليس درس الاتحاد السوفياتي أمام الجميع لجهة كونه عملاقاً نووياً بساقين اقتصاديتين من فخار، وهو ما أدى إلى سقوطه؟ وما الذي يمنع المجتمع من أن يتنفس من دون رقابة صارمة على أمور عادية في الحياة؟
ليس هذا بالطبع منطق الحرس الثوري الذي يفاخر قائده الجنرال حسين سلامي بتصدير الثورة ويقول “مع مرور الزمن تتسع جغرافيا الثورة وتتقلص مساحة تنفس الأعداء. قواتنا تعلمت العمل لقلب موازين القوى عبر زيادة القدرة بروح ثورية، وهذا ما تحول إلى عنصر لهزيمة الأعداء، وطوفان الأقصى هو المرحلة الأولى من الزوال المبكر لإسرائيل”. فما يريده ويصر عليه الحرس الثوري كما اعترف وزير الخارجية سابقاً محمد جواد ظريف أن “تعمل الدبلوماسية في خدمة الميدان”، وليس العكس. والمثال الذي يركز عليه خامنئي هو ترداد قصيدة مفضلة عنده للشاعر الراحل محمد تقي بهار “صمود المسمار وثباته، يستاهلان أن يصيرا عبرة للبشر. كلما حاولوا تحطيم رأسه بقي في مكانه واستقر”.
لكن توظيف الاضطرابات والأزمات في الخارج وهو جزء من استراتيجية إيران بحسب سوزان مالوني من مؤسسة بروكنغز لا يحول دون الفوضى في الداخل. ويرى المتخصص الأميركي من أصل إيراني كريم ساد جادبور إنه “لم يسبق أن بدا النظام الإيراني في أعوامه الـ43 أكثر ضعفاً مما هو عليه الآن”، أما كسرى أعرابي من معهد “التغيير العالمي”، فإنه يسجل أن “المزاج في إيران ثوري، والسلطات يمكنها قمع المحتجين ولكن لا يمكنها قمع المزاج الثوري”.
مهما يكن من أمر بزشكيان في الرئاسة، إذ السلطة في يد المرشد الأعلى والرئيس أعلن أنه سيعمل تحت سقف المرشد، فإن التغيير العميق حدث خارج الانتخابات. والانقسام لم يعد رمزه الفارق بين “الرابطة العلمائية المناضلة، روحانيت” ورابطة العلماء المناضلين، روحانيون”. فالمجتمع صار مختلفاً عن النظام بعد أربعة عقود من الثورة والسلطة ورؤية الملالي في الدواوين وليس في الحسينيات. المجتمع تعددي ودينامي ومعقد كما يقول الخبراء. والنظام أحادي وجامد ومعقد. و”التمييز بين إصلاحي ومحافظ لم يعد يعكس الواقع” كما يقول رئيس تحرير “طهران تايمز” محمد صرفي. والمفارقة أن الشعب صار يفهم النظام كما هو خارج الخطاب الديني في حين يعجز النظام والتيارات فيه عن فهم الشعب.