ما الخلل الذي يشوب الديمقراطية في المملكة المتحدة ؟
الناخبون يريدون شيئاً لكن الساسة يعدون بشيء آخر، وما يزيد المشكلة تعقيداً أن لدى السياسيين تاريخاً حافلاً بالتراجع عن جزء كبير من وعودهم وتعهداتهم الانتخابية، فهل يكسر رئيس وزراء بريطانيا الجديد هذا المنحى ويقدم أداء مختلفاً؟
إذا ما رغب الناس بخفض الضرائب وتقليص الإنفاق العام فيفترض أن يتمكنوا من التصويت لمصلحة الحزب الذي يحقق لهم هاتين الغايتين على وجه التحديد، إلا أن المشكلة في بريطانيا هي أن هناك فجوة كبيرة بين ما يريده الجمهور وكيف يصوت والسياسات التي تنفذ في نهاية المطاف
الناخبون يريدون شيئاً لكن الساسة يعدون بشيء آخر، وما يزيد المشكلة تعقيداً أن لدى السياسيين تاريخاً حافلاً بالتراجع عن جزء كبير من وعودهم وتعهداتهم الانتخابية، فهل يكسر رئيس وزراء بريطانيا الجديد هذا المنحى ويقدم أداء مختلفاً؟
كيف أدليتم بصوتكم؟ وهل يعكس الحزب الذي اخترتموه (بغض النظر عن مشاركتكم اسمه) تطلعاتكم وكل ما تطمحون إليه؟
عندما يتعلق الأمر بالنقطة الأخيرة فالجواب هو ببساطة: لا، ليس فعلاً. فبطاقة الاقتراع التي وضعتموها في الصندوق تمثل ما هو أقل بكثير مما تعتقدونه، كما أن غالبية الأشخاص في الواقع تميل إلى التصويت للحزب الذي يعتبرونه الخيار الأقل سوءاً، بينما يختار آخرون ببساطة عدم التصويت على الإطلاق.
وفيما أن خيبة الأمل هذه في السياسة تشكل جزءاً من اتجاه سائد منذ فترة طويلة في البلاد، إلا أن الثقة بالأحزاب السياسية بلغت هذا العام أدنى مستوياتها على الإطلاق، إذ أعرب 12 في المئة من الناخبين فقط عن أنهم يثقون فيها، فيما ذكر أقل من ربعهم أنهم يثقون في البرلمان، في حين ذكر أقل من الخمس أنهم يثقون في وسائل الإعلام.
وفيما اضطلعت عوامل سياسية قصيرة المدى، مثل الرئاسة الكارثية من جانب ليز تراس للحكومة، بدور في هذا الافتقار إلى الثقة بين الناس إلا أنها لا تعكس الواقع بأكمله، والحقيقة أن الثقة بالديمقراطية كانت في تراجع منذ أعوام عدة، لكن ما الذي يفسر هذا الشعور واسع النطاق بخيبة الأمل؟ أعتقد أن الأمر يتلخص في قضية رئيسة واحدة وهي فشل السياسيين في الوفاء بما يتوقعه الناس وما يطمحون إليه.
من المفترض بالمؤسسات الديمقراطية أن تقوم بوضع الآليات التي تتيح ترجمة طموحات الناخبين إلى نتائج سياسية، وإذا ما كانوا يرغبون في خفض الضرائب وتقليص الإنفاق العام فلا بد من أن يتمكنوا من التصويت لمصلحة الحزب الذي يحقق هاتين الغايتين على وجه التحديد، إلا أنه في المملكة المتحدة تتمثل المشكلة في وجود فجوة كبيرة بين مطالب الناخبين وسلوكهم الانتخابي والسياسات التي يتم تنفيذها فعلياً في نهاية المطاف.
أحد استطلاعات الرأي الذي قامت به أخيراً مؤسسة “سورفايشن” Survation لأبحاث السوق أجرى مقارنة بين ما يريده الناس من السياسة وما يقدمه السياسيون على أرض الواقع، وتبين أن نحو 70 في المئة من الناخبين يؤيدون الملكية العامة لخدمة المياه، و66 في المئة يؤيدون الملكية العامة لقطاع الطاقة، و68 في المئة يفضلون أن تبقى خدمة البريد مُلكية عامة، لكن أياً من الأحزاب السياسية الرئيسة لم يعرض هذه الخيارات على الناخبين.
وقد أعرب الناس في المقابل عن مخاوف عميقة في شأن وضع الاقتصاد والخدمات العامة، ويؤكد ما يقارب 40 في المئة من الأشخاص الذين اُستطلعت آراؤهم أنهم واجهوا صعوبات في تأمين الغذاء خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، فيما أشار نحو 45 في المئة منهم إلى أن أزمة ارتفاع كُلف المعيشة كانت عاملاً رئيساً مؤثراً في الاتجاه التي سلكه تصويتهم.
لكن حتى حزب العمال لا يقدم هو الآخر حلولاً لهذه القضية، والبريطانيون الذين منحوه أصواتهم يدركون ذلك، وعلى رغم أن معظم الناخبين يعتقدون أن هذا الحزب في وضع أفضل من حزب المحافظين لمعالجة هذه المسألة، فقد كشف استطلاع للرأي أجري في أغسطس 2023 أن 23 في المئة فقط من الأفراد يعتقدون أن معالجة أزمة ارتفاع كلفة المعيشة تشكل أولوية بالنسبة إلى حزب العمال.
قد يكون من السهل تفسير هذه الفجوة بالقول إن الناس يرغبون في الحصول على فوائد معينة من دون الرغبة في قبول فرض الزيادات الضريبية اللازمة لتمويل هذه السياسات، غير أن وجهة النظر هذه ليست دقيقة هي الأخرى.
في المملكة المتحدة يبلغ عدد الذين يؤيدون زيادة الضرائب لدفع كُلف الخدمات العامة ضعف عدد الذين يؤيدون خفض الضرائب والإنفاق العام، وفيما يرغب 73 في المئة من الناس في فرض ضريبة بنسبة اثنين في المئة على الثروات التي تزيد على 5 ملايين جنيه إسترليني (6.4 مليون دولار أمريكي)، يطالب 78 في المئة بفرض ضريبة إضافية بنسبة واحد في المئة على الثروات التي تتجاوز 10 ملايين جنيه إسترليني (12.8 مليون دولار).
وفي مقابل هذا الاتجاه السائد يعارض حزب العمال بشدة النظر في زيادة الضرائب على الأثرياء أو الشركات الكبيرة، كما أنه يلتزم بشكل صارم بسياسته المالية غير المنطقية في مواجهة الأزمة الاقتصادية على نحو فاعل، مما يعني أنه إلى جانب مقاومته الزيادات الضريبية، لا يخطط لتخصيص أموال جديدة لمعالجة القضايا الملحة مثل أزمة ارتفاع كُلف المعيشة وتلك التي تواجهها مرافق “الخدمات الصحية الوطنية” (أن إتش أس) NHS.
الناخبون يريدون شيئاً لكن الساسة يعدون بشيء آخر، وما يزيد المشكلة تعقيداً أن لدى السياسيين تاريخاً حافلاً بالتراجع عن جزء كبير من وعودهم وتعهداتهم الانتخابية، فهل يكسر (رئيس الوزراء الجديد) كير ستارمر هذا المنحى ويقدم أداء مختلفاً؟
“معهد الدراسات المالية” Institute for Fiscal Studies، وهو أحد مؤسسات الفكر الاقتصادي الرائدة في المملكة المتحدة، حض حزب العمال على اعتماد الشفافية مع الناخبين في ما يتعلق بالطريقة التي ينوي من خلالها تمويل التزاماته السياسية الكثيرة، واستناداً إلى تعهداته المتعلقة بالضرائب والإنفاق الحكومي يبدو أنه سيكون من الصعب الوفاء بوعود البيان الانتخابي للحزب.
على سبيل المثال تعهد حزب العمال بتقليص أوقات انتظار المرضى في مرافق “أن إتش أس” وزيادة المواعيد الطبية من خلال إضافة 40 ألف موعد جديد أسبوعياً، لكن مؤسسة “نافيلد تراست” Nuffield Trust، وهي مؤسسة بحثية بارزة في مجال الصحة، تقول إن التزامات حزب العمال في مجال “الخدمات الصحية الوطنية” تفتقر إلى الصدقية والتخطيط التفصيلي.