«توماس ماثيو كروكس» شاب عشريني اشتهر في العالم بعد مقتله بأنه من خطط لاغتيال المرشح الجمهوري دونالد ترامب خلال تجمع انتخابي في ولاية بنسلفانيا المتأرجحة، هذا ملخص القضية غير المفهومة كما أوردتها الشرطة الفيدرالية الأميركية التي أكدت أن ما جرى كان محاولة اغتيال، في حين تواصل الأجهزة المختصة في الولايات المتحدة تحقيقاتها كي لا تضيع الحقيقة كما جرى مع الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي قبل 61 عاماً.
إن منطق الأمور يطرح عدة أسئلة في هذا الصدد، فما الشيء الذي يدفع شاباً عشرينياً لا سوابق إجرامية له للتخطيط لاغتيال مرشح رئاسي وهو يعلم أنه سيقتل لا محالة، رداً على ذلك، فإما أن يكون مجنوناً، ونفي هذه الفرضية هنا جاء مباشرة على لسان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي بالقول: «ليس لدينا أي مؤشرات على أن المشتبه فيه يعاني مشاكل عقلية»، أو يحمل لواء فكر مناهض لترامب وعقليته وما سيجره على البلاد لو فاز بالانتخابات وأصبح رئيساً، إلا أن هذا الافتراض أيضاً غير واقعي على اعتبار أن الشاب كروكس لم يفصح عن سبب تضحيته بنفسه، بل قال فقط في فيديو انتشر له عقب مقتله، إنه «سئم من ترامب والجمهوريين وإنهم عبثوا مع الشخص الخطأ»، وهنا يقصد نفسه، وهذه الفرضيات قد تصح لو جرت محاولة الاغتيال قبل أكثر مئة عام كما حدث مع الرئيس السادس عشر أبراهام لنكولن، أو الرئيس العشرين جيمس غارفيلد، أو الخامس والعشرين ويليام ماكنلي، حيث قتلوا جميعاً بطرق ساذجة ولاعتبارات شخصية وبعضها مضحكة، لكن حينها كانت الولايات المتحدة بلداً عادياً بل حتى منقسماً ويعاني حرباً أهلية وليس أعظم دولة في العالم عسكرياً وتكنولوجياً، كما هو الحال اليوم، أما الآن فإن قصة كقصة كروكس لا تمثل سوى رأس جبل جليدي يختفي معظمه تحت المياه، وهناك في الأعماق يجب البحث عن السبب الحقيقي لمحاولة اغتيال شخص كهذا.
من الفرضيات التي يمكن أن تكون واقعية لتبرير عملية كهذه، الصدمة الكبرى التي تعرض لها الديمقراطيون جراء المناظرة بين ترامب والرئيس الحالي المرشح عن الحزب الديمقراطي جو بايدن قبل أيام، التي أطاحت ربما بآخر آمالهم بأن يتمكن بايدن من الفوز بولاية ثانية، ومحاولتهم إقناعه بالتنحي قبل أن يعارضهم ويتشبث بفرصه الانتخابية حتى يأتي أمر الرب على حد تعبيره، وبغض النظر فإن إبعاده عن الطريق أو إبعاد ترامب الجمهوري الأكثر حظوة وقوة سيان، فهما قد يؤديان النتيجة ذاتها، أي إمكانية بقاء الحكم بيد الديمقراطيين، وهذه فرضية مستبعدة ربما، وخصوصاً إذا ذهبنا بعيداً بالاعتقاد أن الإدارة الديمقراطية الحالية هي التي تقف وراءها، وهو أيضاً استنتاج الكرملين ذاته الذي أعلن تعليقاً على محاولة الاغتيال: «روسيا لا تعتقد أن محاولة اغتيال ترامب دبرتها الإدارة الأميركية الحالية، لكن الأجواء المحيطة بالمرشح ترامب أثارت ما تواجهه أميركا اليوم».
أما في حال التعمق أكثر في خطورة وصول ترامب إلى سدة الرئاسة لبعض الجهات فيبرز نظام كييف، الذي يعد الأكثر تضرراً لعدة نواحٍ أهمها أن ترامب لا ينفق على الحروب، وهذا ما كان واضحاً خلال فترته الرئاسية الأولى، ولقوله أيضاً خلال أحد تصريحاته المثيرة للجدل العام الماضي: إنه «في حال فوزه على بايدن فإنه سيقطع الدعم العسكري لأوكرانيا وينهي الحرب في مدة 24 ساعة»، الأمر الذي أيده بعض المقربين من ترامب حينها بالقول: إن الأخير قد يلجأ لمنح الرئيس الروسي المناطق التي سيطرت عليها روسيا مؤخراً في دونباس وخيرسون وزابوروجيا وأيضاً شبه جزيرة القرم التي تم ضمها عام 2014، وذلك لوقف الحرب بشكل كامل وإغلاق باب خطر مفتوح على مصراعيه لحرب عالمية لن تستثني الأراضي الأميركية هذه المرة، كما حصل في الحرب العالمية الثانية، كذلك تظهر خطورة وصول ترامب بالنسبة لنظام كييف بقطعه التمويل الهائل الذي شهدته أوكرانيا في عهد بايدن، حيث أغدق عليها العجوز الأميركي خلال العامين الماضيين مليارات الدولارات ودفع الأوروبيين ليضخوا أموالهم هناك، إضافة إلى منحها الأسلحة الثقيلة وإمدادها بالمرتزقة من كل بقاع الأرض، في حين يلبس الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ثياب الحرب ويمارس مهنته في التمثيل على العالم كيف يقارع الروس في أرض الميدان، بينما يجر «الناتو» للغوص أكثر فأكثر في المستنقع الأوكراني الذي قد ينتهي بانفجار عظيم بين المعسكرين، الأمر الذي يرفضه ترامب التاجر وصاحب النظرية الاقتصادية، الذي يرى أن الصين واقتصادها المتسارع هو الخطر الأكبر على الولايات المتحدة.
ختام الفرضيات إن هناك من يرغب في تفجير حدث غاية في الأهمية على مستوى العالم كي يتاح له العمل بعيداً عن الإعلام وصوت الرأي العام العالمي الذي أنهكه على مدار 9 أشهر، والقصد هنا هو رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومة الاحتلال الذين رغم تنديدهم وإظهارهم الأسف على محاولة الاغتيال، فإن حدثاً كهذا قد يشغل العالم، بينما تواصل إسرائيل حرب الإبادة الجماعية ضد غزة وخاصة بعد المجزرة المروعة الأخيرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في مخيم المواصي غرب خان يونس باستخدام الذخيرة الأميركية التي سمح بايدن بإيصالها للكيان، إضافة إلى ذلك فعلى الرغم من التزام ترامب ككل الرؤساء الأميركيين بأمن إسرائيل، إلا أن موقفه من إشعال الحروب والإنفاق عليها قد يتسبب بعجز نتنياهو عن مواصلة حربه، فيما يبدو أن بايدن والجانب الديمقراطي أكثر قابلية للانقياد.
وبعد نقاش جميع هذه الفرضيات، قد يكون كروكس هو رأس الجبل الجليدي وعمقه، وقد يكون هذا الشاب أنموذجاً للشباب الأميركي الذي يعيش في بلاد تسمح بتداول السلاح وبيعه للناس كالحلوى، حيث يمارس القتل بشكل يومي من دون رقيب، لكنها لا تسمح بقول بعض طلاب الجامعات كلمتهم لإدانة الإبادة الجماعية في غزة، حيث تكمم أفواههم ويضربون ويلقون في السجون.
بكل الأحوال، إن محاولة الاغتيال هذه شكلت منعطفاً مهماً في السباق الرئاسي ورجحت كفة ترامب بعد التعاطف الذي شهده من وجوه المجتمع الأميركي، حتى إن بايدن حاول اللحاق بالركب واستغلال الحادثة ليظهر سعة أفقه كرئيس للبلاد بهدف كسب الاحترام، حيث قال: «إصابة ترامب ليست خطيرة وأجريت معه اتصالاً.. هناك من يؤجج التفرقة بين الأميركيين ونحن قادرون على تحقيق الوحدة بيننا»، غير أن ترامب كان أكثر ذكاء بالقول في تصريح نقلته «نيويورك بوست»: إن «بايدن كان لطيفاً للغاية خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها معي»، وبالتزامن أمر مساعديه بعدم السماح بإطلاق تصريحات مرتبطة بالحادثة قد تثير التوترات وذلك قبيل بدء المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في ولاية ويسكنسن الذي سيشهد إعلان ترامب بكل قوة مرشحاً أوحد للحزب الجمهوري وسط حراسة أمنية مشددة، ومن يدري فقد تكون محاولة اغتيال ترامب هذه مجرد بداية لحلقة من العمليات والمحاولات المشابهة، وما تصريح وزير الأمن الداخلي الأميركي أليخاندرو مايوركاس «نحن في بيئة شديدة التهديد وأجهزتنا تتكيف معها»، سوى دلالة على حجم التهديد الحقيقي المنبثق من شبكات المصالح المتضاربة التي تقف في ظل المنافسة التي يعيشها المرشحين الرئاسيين للحزبين الديمقراطي والجمهوري.