حماس

حماس.. وشرعية التمثيل الفلسطيني

نرى بكل وضوح كيف تسعى حماس لمغازلة الولايات المتحدة علها تحصل على شرعية ولو بسيطة تمكنها في مراحل لاحقة من الاستمرار في مسارها للاستيلاء على منظمة التحرير، من خلال التفاهمات وتقديم المرونة اللازمة لعقد الاتفاقات مع الكيان المحتل.

إن أساس الخلاف القائم بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس هو الاستمرار بالحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل بعيدا عن التجاذبات الإقليمية، فحركة حماس منذ نشأتها تسعى إلى إخضاع هذا القرار؛ إما لمصالح جماعة الإخوان المسلمين تارة.. وإما لأهواء الولي الفقيه وحرسه الثوري تارة أخرى، شأنها في ذلك شأن كل القوى والحركات الفلسطينية التي رهنت سابقا قرارها لمصالح أنظمة عربية وإقليمية، بعيدا عن مصالح الشعب الفلسطيني.

بمقارنة بسيطة نجد أن منظمة التحرير الفلسطينية بكل مكوناتها تسعى للهدف الأسمى؛ وهو تحرير فلسطين، كما تسعى حركة حماس لذات الهدف، ولكن يختلف الطرفان على أمرين أساسيين، الأول: أن البعد السياسي للقضية الفلسطينية هو الأساس وليس البعد الديني، وأن كل مكونات الشعب الفلسطيني هم أصحاب هذه القضية، أما الثاني: هو كيفية تحقيق هذا الهدف بالحل السياسي أم بالمقاومة المسلحة.

ولكن ثبت لي، من خلال قراءات عديدة، أن هناك أساسا ثالثا تختلف فيه منظمة التحرير الفلسطينية عن حركة حماس، وهو القرار الوطني الفلسطيني المستقل وأهميته والذي يعتمد على فارق زمني مقداره 25 عاماً من الخبرة!

من خلال متابعتي لبرنامج وثائقي تلفزيوني تم إعداده في العام 2018 تحت مسمّى “حرب العقول”، نستنبط من أغلب من أدلوا بشهاداتهم فيه وممن عاصروا تلك الفترة، كونه برنامجا يمثل شهادة للتاريخ على ما جرى في الفترة ما بين العام 1988، مروراً بكواليس مؤتمر مدريد للسلام ومفاوضات أوسلو، وحتى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين وإيقاف مسار عملية السلام، وأن همّ القيادة الفلسطينية الوحيد كان ولا يزال في تلك المرحلة هو أن يكون هناك قرار مستقل للشعب الفلسطيني، وأن يأخذ زمام المبادرة بيديه لا بأيدي أحد آخر، ونرى من خلاله كيف تمكنت القيادة الفلسطينية من تجاوز الكثير من العقبات في سبيل ذلك.

ونجحت في النهاية بتثبت نقطتين على قدر كبير من الأهمية من خلال اتفاق أوسلو؛ هما الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا له من جهة، وفتح حوار بشكل مباشر سواء مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل من جهة أخرى، والذي يجسد التعبير الأمثل على القرار الوطني المستقل، وبداية عصر جديد نتحكم فيه بواقعنا ومستقبلنا، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه حماس.

ولن تنجح فيه على الأقل في الوقت الراهن، وذلك راجع إلى أن الحركة رهنت قرارها بقرار جهات عربية وإقليمية من ناحية، ولم تستطع فتح آفاق للتفاوض بشكل مباشر نظرا إلى تكوينها الفكري وارتباطها بمحاور أدت لمحدودية هامش الحركة لديها من جهة أخرى.

حماس منذ نشأتها في نهاية الثمانينات دأبت على محاولة انتزاع التمثيل الفلسطيني، فلم تعترف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد، ولم ترغب في الانضمام للشرعية الفلسطينية التي عُمِّدت بالدم والتجربة على مدار عقود طويلة، وقررت أن تنشئ لها شرعية موازية تعتمد على عناوين براقة وشعارات غير قابلة للتحقيق، وأيديولوجيا دينية في معالجة المواضيع المختلفة تحت إطار الحلال والحرام، فتحلّل تارة وتحرّم تارة أخرى حسب ما تقتضيه مصلحتها ومصالح من ترتبط بهم.

وقد سعت الحركة ومنذ اللحظة الأولى لفتح مسارات لحوار مع الولايات المتحدة مثلما فعلت منظمة التحرير، ولكنها لم تستطع، لأنها لم تقرأ جيدا، ولم تفهم أسس بناء مثل تلك المسارات من ناحية.. ومن ناحية أخرى لم تدرك ولا تريد أن تدرك.. أن منظمة التحرير الفلسطينية وشرعية تمثيلها غير قابلة للاستبدال فقد جذرت منظمة التحرير الفلسطينية وجودها على مدار عقود طويلة بطرق مختلفة عبر المقاومة المسلحة تارة وعبر الحوار والتفاوض تارة أخرى، والأهم هو تعدديتها في الفكر والحفاظ على الحد الأدنى من ديمقراطيتها في اتخاذ القرار.

بالعودة إلى تاريخ الثورة الفلسطينية هناك الكثير من الأشخاص والحركات التي حاولت أن تسعى لما تسعى إليه حماس، وفي نهاية المطاف أصبحت بلا حول ولا قوة، وأنا شخصيا شاهد على ذلك، ففي أول زيارة للرئيس محمود عباس إلى سوريا، شاهدت بأم عيني كيف أحضر الرئيس بشار الأسد قادة كل الفصائل التي تعمل في سوريا بمن فيهم؛ موسى العملة “أبوخالد” وسعيد مراغة “أبوموسى” وأحمد جبريل.. وخالد مشعل وآخرون، وكيف اصطفوا للسلام على رئيس الشعب الفلسطيني في زيارته الأولى إلى دمشق.

ورأيت كيف كان يتم التعامل معهم، وكيف يتم توجيههم أين يقفوا وكيف، ومتى يغادرون إلى غرفة في انتظار تعليمات إضافية، هذا هو الواقع الأليم! فمعظم هؤلاء الأشخاص أصبحوا في طيّ النسيان، وبقيت حماس تحاول، وعندما وجدت من يستطيع أن يحقق لها آمالا أكبر لذات الهدف، استغنت عن سوريا ورئيسها الأسد بل وحاربت ضده، والآن عادت لتعلن ندمها وتقدم أوراق اعتمادها الجديدة عسى أن ترضى عنها طهران وحلفاؤها، لتنجو من قادم الأيام، ولكنني أشك أنها ستنجو منها.

إن ما قامت به حماس ليس له من وجهة نظري أي علاقة بالتحرير الذي يعتبر الهدف الأول للمقاومة بمفهومها العام، ولكن له علاقة أكيدة بمحاولة أخيرة للاستيلاء على شرعية التمثيل الفلسطيني، فنحن نرى على الأرض ما آلت إليه الأمور بالرغم من ضخ الآلة الإعلامية، التي تسوّق لانتصارات وهمية في محاولة لجلب عدد أكبر من الأنصار، ولا ترى حقيقة واقع الحال من دمار مقدرات الشعب الفلسطيني وما يعانيه شعبنا من قتل وتهجير بأنه كارثة حلت على الشعب الفلسطيني بل ثمن يجب دفعه من أجل النصر، ولا تستقرئ ما سيؤول إليه قادم الأيام من مستقبل صعب تبقى ملامحه مجهولة إلا ما ندر من تسريبات تتنبأ في جلها أن الكارثة محققة لا محالة.. إذا استمر النهج الحالي، مهما تم تجميل الأمر.

ونرى بكل وضوح كيف تسعى حماس لمغازلة الولايات المتحدة علها تحصل على شرعية ولو بسيطة تمكنها في مراحل لاحقة من الاستمرار في مسارها للاستيلاء على منظمة التحرير، من خلال التفاهمات وتقديم المرونة اللازمة لعقد الاتفاقات مع الكيان المحتل والإدارة الأميركية بمعزل عن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني بغية إنهاء الحرب والعودة إلى المربع الأول “طبعاً عبر الوسطاء”! ولكن أقول لها – ولعلّي أجد عاقلا يستمع بها-  إنها لن تستطيع، لأن هذه المنظمة رغم ما يشوبها من ضعف ورغم تكاثر المحرضين ضدها ومن يريدون لها الهلاك ستبقى وستنتصر لأنها تؤمن إيمانا كاملا بشعبها وبأن قراره الوطني يجب أن يبقى مستقلاً، وهو الذي يعتبر صمام الأمان الذي يحميها ويبقيها على قيد الحياة.

في محطات عديدة تعلّمنا من أخطائنا وصحّحنا من مساراتنا ولكن على حركة حماس أن تتعلم أيضا من أخطائها وتصحح من مسارها، وأن تصل إلى نتيجة بأن استعمال الدين والشعارات الرنانة لن يحقق لها شيئا، وأنها ستلتحق بمن سبقها في المحاولة، عسى أن تجد لها مكانا في تاريخ الشعب الفلسطيني الذي يكتبه أبناؤه بأيديهم ودمائهم ويرفضون أن يكتبه أحد آخر نيابة عنهم.

وسيبقى الخلاف بيننا؛ هو منظمة التحرير الفلسطينية التي تحافظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى