عودة النظام الإيراني للعبة ظريف
سيتولى محمد جواد ظريف مهمة متابعة الملف النووي، أما الرئيس الجديد مسعود بزشكيان فسيواجه احتجاجات قريبة ستشتعل من تحت رماد ثورة مهسا أميني
الانتخابات في إيران لها أهمية خاصة لدى مسؤولي النظام، فهي تبين للحكم الديني المطلق كيفية نظرة الناس والوضع في البلد الذي يضم 85 مليوناً، كما تبين الوضع السياسي ومستقبل النظام.
هذه الأسباب تكشف لنا أهمية “هندسة الانتخابات” في نظام طهران، فقد أجريت المرحلة الثانية للانتخابات في النظام الإيراني بعد أسبوع من المداولات بين متنافسين من التيار الأصولي والتيار المعتدل، وانتهت بفوز مسعود بزشكيان.
النظام اختار ستة أشخاص للتنافس بعد نحو 50 يوماً من سقوط طائرة الرئيس ومقتله، وجميع هؤلاء المرشحين لهم سجل مماثل والفرق بينهم هو أن أحدهم، أي مسعود بزشكيان، حرص على أن يظهر إلى جانب محمد جواد ظريف خلال الحملة الانتخابية.
ولم يكن محمد جواد ظريف مرشحاً في الانتخابات لكن حضوره ونشاطه في الحملة الانتخابية يذكر بفترة كان النظام الإيراني يعيش فيها وضعاً مستقراً أمام التهديدات الخارجية، فهو دبلوماسي كان يتمشى مع جون كيري في شوارع جنيف ويتحدث الإنجليزية أفضل من بعض المسؤولين الأميركيين، واستطاع إيجاد تغيير في الملف السياسي للبرنامج النووي الذي يشكل أكبر هاجس للنظام، وكان شخصية سياسية جدلية، وبعد التوقيع على الاتفاق النووي أصبح أهم من حسن روحاني في صفوف مسؤولي النظام.
هذا النجم الصاعد لـ “الإصلاحيين” أفل بعد قمع الاحتجاجات بأسلوب دموي وإسقاط الطائرة الأوكرانية في سماء طهران ومقتل 176 شخصاً من ركابها، وقد أعلنت حكومة روحاني في البداية أن الطائرة سقطت بسبب خلل فني، وبعد تسريب تسجيل صوتي لمقابلة بين محمد جواد ظريف والصحافي سعيد ليلاز تبين ما كان يخطط له ظريف، إذ قال في التسجيل الصوتي إنه توجه إلى مجلس الأمن القومي بعد يومين من إسقاط الطائرة، وقال للحاضرين “إذا كنتم من أسقط الطائرة فأبلغوني الحقيقة حتى أعالج الأمر”.
وبعد ارتفاع أسعار البنزين أعلن الرئيس السابق أنه لم يكن يعلم بذلك، وقد اطلع مثل باقي المواطنين على رفع أسعار الوقود، أما الاتفاق النووي لم يؤد إلى إيجاد انفتاح مثلما كان يتوقعه الشعب ولكنه أخرج النظام الإيراني من خطر إصدار عقوبات أخرى، فقد عمل محمد جواد ظريف كثيراً لإنقاذ النظام من خلال إيجاد قنوات دبلوماسية رسمية مع الغرب، إذ كانت هذه القنوات قد أغلقت بعد وصول النظام إلى الحكم، وهذا التطور لم يكن يحدث إلا بموافقة المرشد علي خامنئي، لكن الأمور تغيرت في الولايات المتحدة الأميركية وأتى دونالد ترمب إلى الحكم ودمر ما كان قد نسجه ظريف وفريقه، وانتهى الاتفاق الذي أبرمه الديمقراطيون بقيادة باراك أوباما والنظام الإيراني بعد ثلاث مرات من تمديد المهلة التي أعلنها ترمب، وتكرار طلبات الحديث المباشر مع النظام الإيراني، لكن المفاوضات المباشرة ومصافحة الرئيسين أمام الكاميرات تعني انتهاء فكرة تأسيس النظام الإيراني، وهو الأمر الذي لن يقبله مرشد النظام علي خامنئي.
النظام الإيراني يفضل السير على نهج إجراء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية، مثل المفاوضات بين وزراء خارجية البلدين أو اللقاءات التي حدثت في عُمان خلال ولاية إبراهيم رئيسي، ومسعود بزشكيان لا يملك كاريزما ملحوظة ولم تكن له سوابق كبيرة في إدارة البلاد أو القيام بأعمال تحظى باهتمام الشعب حتى يصوت الناخبون له، لكن عمل علي خامنئي على هندسة الانتخابات بشكل مراوغ من خلال الدفع بمحمد جواد ظريف إلى الأمام ليرافق مسعود بزشكيان كي يستغل ترحيب الناس بظريف من أجل رفع نسبة المشاركة.
كان مسعود بزشكيان وزيراً للصحة خلال حكم محمد خاتمي، وأدلى بتصريحات مناصرة للنظام الإيراني بعد مقتل الصحافية الإيرانية الكندية زهراء كاظمي في سجن إيفين، وقال وقتها إنه كطبيب اطلع على نتائج تشريح زهراء كاظمي وشاهد جثمانها، ولم تكن هناك علامات لجراح تسببت في وفاتها، فوقف مسعود بزشكيان آنذاك خلف النظام وعمل على إخفاء موضوع مقتل زهراء كاظمي في السجن، وفي عام 2022 أكد بزشكيان قتل زهراء كاظمي بواسطة الضرب داخل السجن.
وكان مجلس صيانة الدستور قد رفض أهلية مسعود بزشكيان عام 2021، فكيف غير هذا المجلس رأيه وأيد أهليته عام 2024 ليخوض الانتخابات الرئاسية؟
هندسة الانتخابات التي نتحدث عنها كانت على أساس الاهتمام بتفاصيل جميع أطراف القضية، إذ يعرف النظام أن وصول رئيس على شاكلة إبراهيم رئيسي خلال الفترة الحالية يعرض مصالح النظام إلى الخطر، وما شهدناه خلال الحملة الانتخابية وعلى مدى الأيام الـ 50 الماضية أن محمد جواد ظريف كان العنصر الأساس لهذه المجموعة، فقد كان الشعب الإيراني ينظر إلى ظريف كما أن العالم كان يشاهد مشاركته في الحملات الانتخابية، وتحول مسعود بزشكيان، الرجل المعتدل الذي لا يوجد إنجاز كبير لمصلحة الشعب في سجل مسؤولياته، إلى شخصية إصلاحية دفعها علي خامنئي للوقوف إلى جانب محمد جواد ظريف ليفوز بالانتخابات.
وإضافة إلى تشجيع الناخبين للمشاركة في الانتخابات من أجل رفع نسبة المشاركة وكسب الشرعية، فإن النظام ينوي استخدام ورقة ظريف في المستقبل بعد الانتخابات الأميركية.
ومثلما يتوقع الشعب الأميركي والبلدان الغربية فوز ترمب خلال الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة، فإنه من الطبيعي أن يولي مسؤولو النظام الأهمية لهذا التطور، إذ كانت مشاركة ظريف في الحملة الانتخابية إلى جانب شخصية مجهولة مثل مسعود بزشكيان قد أدت إلى دخول ظريف الساحة السياسية مرة أخرى، ليعمل على إيجاد التعامل بين الميدان (العسكر) والدبلوماسية التي تحدث عنها في وقت سابق.
في التسجيل الصوتي المسرب لمقابلته مع سعيد ليلاز أكد ظريف أن النظام قرر إيلاء أهمية للميدان (العسكر) أكثر من الدبلوماسية، وقد تسرب التسجيل الصوتي بشكل مدروس واطلع عليه الشعب، ومع الوضع المعقد للملف النووي في الوقت الراهن وما يتردد حول قرب إيران من إنتاج أسلحة نووية، فمن الطبيعي أن تكون نظرة ترمب للملف النووي ونشاط الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة تختلف عن نظرة الديمقراطيين والرئيس جو بايدن، فقد استدعى خامنئي ظريف من أجل التفاوض مع الجمهوريين إذا ما فاز ترمب في الانتخابات الرئاسية ووصل إلى البيت الأبيض، ولذلك سيصبح محمد جواد ظريف أهم شخصية في حكومة مسعود بزشكيان.
وتتركز التحديات التي يواجهها المرشد الطاعن في السن قبل تعيين خليفة له على مساعي الغرب ضد البرنامج الإستراتيجي للنظام، أي البرنامج النووي، وعلى رغم هذه المحاولات والسياسات التي اتخذها النظام فإن نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات كانت منخفضة، وهي كانت أقل من باقي الانتخابات التي أجراها النظام خلال الأعوام الماضية.
فاز مسعود بزشكيان بحصوله على 16 مليون صوت، وكانت هذه النسبة أقل من الأصوات التي حصل عليها إبراهيم رئيسي، وكان جزء من هذه الأصوات سببه الخوف من وصول جليلي للحكم، ونسبة منه تعود لنشاط محمد جواد ظريف والإصلاحيين.
هذه الانتخابات أثبتت أن غالبية الإيرانيين لم يشاركوا في الانتخابات، وقد أظهروا عدم رضاهم ورغبتهم في النظام الإيراني، وخلال الأيام والأشهر المقبلة سيتولى محمد جواد ظريف مهمة متابعة الملف النووي والعمل كدرع أمام هجمات ترمب والعقوبات الدولية، أما الرئيس الجديد مسعود بزشكيان الذي وعد بحل المشكلات الاقتصادية، فسيواجه احتجاجات قريبة ستشتعل من تحت رماد ثورة مهسا أميني، وفي الختام يمكن القول إن النظام اختار الجمعة الماضي محمد جواد ظريف ومسعود بزشكيان لتولي منصب رئاسة الجمهورية بشكل مشترك.