منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل نشط العمل الخيري بكافة أذرعه المؤسساتيّة، والتطوعية، والفعاليات الاجتماعية، والفرق الشبابيّة؛ للاستجابة لمعاناة النّازحين والمتضرّرين بكافة الوسائل المتاحة، وبالرغم من إغلاق المعابر وقطع الطّرقات، فقد تمكّنت الكوادر الإنسانية من إنشاء مخيّمات الإيواء ومرافقها الخدمية، وترميم بعض المستشفيات، وإسناد كوادرها الصحية، ودعم البلديات، وتقديم المساعدات المنقذة للحياة للأهالي من داخل السوق المحلي “على ندرتها”، أو من خلال قوافل المساعدات الإغاثية القادمة عبر مصر والأردن.
إنّ زخم العمل الخيري ودوره في إسناد النازحين جعله في بؤرة الاستهداف الإسرائيلي، وعليه فقد قدّم حتى اليوم عشرات الشهداء من الكوادر أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني تجاه الشعب الفلسطيني في غزة.
أضف إلى ذلك كل محاولات محاصرة مصادر التمويل الخارجية، وإلصاق تهم الإرهاب بكل من يقدم الدعم والإسناد لغزة، وقد وصل الأمر لإغلاق جمعيات ومؤسّسات وتجميد حسابات ومداهمة بيوت، واعتقالات في أوروبا، ناهيك عن الزيارات المكوكية لمسؤولي FBI والخزانة الأميركية لبعض الدول الإسلاميَّة لحثّها والطلب منها تشديد القيود على المؤسّسات العاملة لصالح غزة، وتعطيل تحويلاتها البنكية والتدقيق في أية حوالة مالية مرتبطة بأعمال الإغاثة داخل القطاع.
يُدرك الإسرائيلي اليوم حجم وأهمية العمل الخيري، ويضع استهدافه في مقدّمة الأولويات، فيما يجتهد العاملون – رغم كل المخاطر – في تقديم المساعدة والتغلب على الصّعاب، ومنها شحّ المواد، وندرة السيولة النقدية في قطاع غزة، والمخاطرة العالية لتأدية العمل الميدانيّ.
الجهد الكبير المبذول يوازيه احتياجٌ كبيرٌ وحصار وإغلاق معابر، وتحديّات جمّة تؤدي إلى عدم الوصول لكافة الفئات المستهدفة، وعليه فقد يعتمل في صدور الناس شُبهة التوزيع، غير العادل والمحاصصة والمحسوبية، إلا أن الغالبية العظمى على خير، وتقدم ما تستطيع، ولديها نظم مالية ومحاسبية للمتابعة والرقابة.
ولأنّ العمل الخيري يقوم به بشر، فهو يخضع للاجتهادات والاستغلال من قبل ضِعاف النفوس، لكن مجتمعاتنا الإسلامية قد ابتليت بداء القيل والقال، وإغفال الحَسن من الأعمال وإظهار السيئ منها، لذا فإنه يجب التوقف عند المحطات التالية لوضع الأمور في نصابها بعيدًا عن التشنّج والدفاع المطلق أو الهجوم المعمم على الجميع.
أولًا: النشطاء وجمع التبرعات
طبيعة أي صراع تجعل من بعض الأشخاص رموزًا وأبطالًا ومحل اهتمام وثقة الجمهور، وتقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في الوصول، وتعزيز الشعبوية والتأثر بالجماهيرية، وتبدأ تلك الشخصيات التي تم ترميزها بالتحول رويدًا رويدًا عن الأعمال التي صنعت مجدهم الرقمي، وينتقلون لمربّعات أخرى، والقيام بأعمال والإدلاء بتصريحات تضعهم في خانة المستفيد والمستغل لما وصل إليه من نجومية، فمنهم من يُنصب نفسه حاكمًا وموجهًا للجمهور، ويشكك في أعمال المؤسسات والأطر الرسميّة، ويدعو للتبرع من خلاله باعتباره الوحيد المؤتمن والحريص.
ومنهم من ينخرط في أعمال الإغاثة الإنسانية وكأن الساحة من قبله كانت فارغة، وهو من قام بسد الثغر الكبير، ثم يقوم بتنفيذ المشروعات بعشوائية دون تنسيق ودون مرجعية، مما يُوقع معظمهم في دائرة القيل والقال، وهذا الوضع يتحمل وزره المانح بشكل أساس، خصوصًا المؤسسات الكبيرة التي تدعم الأفراد على حساب المؤسسات؛ طمعًا في الوصول والجماهيرية والتغطية الإعلامية.
وهناك من يعتقد واهمًا بأنه إن مرّ عبر الأفراد فذلك يعفيه من الاستقطاع الإداري وعمولات التحويل! وهنا لستُ أدري كيف لشاب حديث العهد بأعمال الإغاثة فرض حضوره بشهرة إعلامية، أن يقوم بتغطية المصاريف الإدارية وعمولات التحويل من جيبه الخاص، فيما تعجز عنه مؤسسات كُبرى؟، وكيف له أن يقدم أسعارًا منافِسة، كأن يقدم سعر أضحية الخروف بـ 600 دولار، فيما كان أقل خروف يبلغ سعره 1200 دولار؟! فهذا يحتاج لوقفة ومراجعة من قبل المانح والمؤثر ومرجعيات العمل الإنساني في قطاع غزة.
ثانيًا: المؤسسات الخيرية
تجتهد المؤسسات الخيرية لجمع التبرعات وتحمّل الصعاب لتنفيذ المشروعات ومازال معظمها على خير، وهي الأنسب لتقديم المساعدات، حيث يحكمها نظام داخلي ولوائح وقوانين ومسار عمل، وإن اضطرب هذا المسار، فهو يُعيد فرض نفسه ويعزز الرقابة الجماعية، ولا يجعلها خاضعة لرغبة شخصية أو لشخص متفرد، إلا أن بعض المؤسسات تتناسى وظيفتها الحيوية والأساسية المتعلقة بتقديم المساعدة، وتنحاز إلى المنافسة غير المهنية؛ طمعًا في الحصول على تمويل إضافي.
إذ اعترى العديد من الأعمال منافسات لا تليق بالرسالة السامية التي يقدمها العمل الخيري، وقد أثّرت المنافسة المحمومة بشكل سلبي على المستفيدين، فبات السباق على الصورة أولى من تقديم المساعدة، وبات أقل الأسعار مقدمًا على الجودة، فأهانت الأولى كرامة شعب يقاوم، والثانية قدّمت ما لا يليق بشعب قدّم الدم وما زال يقدم.
والإشكال الأكبر الذي يعتري المؤسسات عدم التنسيق الميداني، فكل منها تعمل بمعزل عن الأخرى، وتحاول أن تبتعد عن أي دائرة أو مبادرة تعمل على تنسيق وتوحيد الجهود، وتوزيع مركز الثقل المؤسسي، بما يحقق عدالة التوزيع، ولا أجد مبررًا لذلك سوى أمرَين: إما أن التدخلات هزيلة، ولا ترقى لمستوى المُعلن عنه من قِبل بعض المؤسّسات، وإما أن هناك خللًا يُخشى فضحُه إن تم التنسيق والمطابقة، وفي الحالتين وجبت المحاسبة والمساءلة.
ثالثًا: حملات التشكيك والإنكار
لحملات التشكيك والإنكار عدة أسباب وجِهات، فهناك من لم تصله المساعدات إلا ما ندر أو تعرض لظلم؛ نتيجة خلل عدالة التوزيع، فأصبح الجميع لديه محل اتهام، خصوصًا القائمين على تسلّم المساعدات وتوزيعها، وهو لا يرى ولا يستطيع تقبل الصورة الكبرى المتمثلة بالاحتياج الكبير والذي تعجز عن تغطيته كل المساعدات مجتمعة، إلا أن القليل المتوفر يجب أن يوزّع بعدل وإنصاف ما استطاع العاملون لذلك سبيلًا.
ومن أسباب التشكيك ظهور بعض حالات الخلل لدى بعض المبادرين والمُبادِرات، وبعض المؤسسات في تنفيذ المشروعات، واستقطاب الأموال، وجمعها دون أن يكون التنفيذ واقعيًا على الأرض، أو يُماثل حجم عمليات الجمع، بالإضافة لارتفاع مصاريف السفر لبعضهم؛ بغرض استقطاب الدعم، ودفع مبالغ التنسيق والتسويق من مبالغ التبرُّعات.
التضارب بين المؤسسات والمؤثرين
حقيقة أرى أن المؤثرين والمتطوعين يجب أن يكون عملهم محكومًا ضمن إطار مؤسسي يعزز الشفافية والمساءلة، ويجب ألا يترك الأمر للهوى والتفرُّد الشخصي في توجيه التبرعات والأولويات. كما أنه من الضروري انخراط كل المؤسّسات العاملة في قطاع غزة في تنسيق جادّ ومُوحد؛ لضمان عدالة التوزيع وعدم الازدواجية، وتوحيد الأسعار، وعدم المضاربة، فالعمل الإنساني في المحصلة هو تقديم خدمة للمحتاجين بغض النظر عن مقدمها، وليس مجالًا تجاريًا ومناقصات تقدم السعر الأقل، وتجتهد في إرضاء العميل.
الذباب الإلكتروني والاستهداف المُوجّه
يعدّ الذباب الإلكتروني أخطر أنواع حملات التشكيك، ويمثل المنخرطون فيها النسبةَ الكبرى، ولعلّ حملات التشكيك الموجّه تُعتبر الأخطر، فهي لا تأتي في سياق الحرص على المال العام، أو من باب الحرص على المستفيدين، وإنما تأتي من باب الخصومة السياسية، ومحاولة الاصطفاف ضد غزة.
وقد لعبت جهات فلسطينية دورًا محوريًا في التحريض على جمعيات عاملة لفلسطين، فيما نشط البعض وبشكل موجّه للتشكيك بأي عمل إغاثي في داخل القطاع وجدواه، بل إن قياديًا فلسطينيًا وجّه خطابًا مسمومًا يطلب فيه وقف التبرّعات ومنع الحوالات عن غزة؛ لأنها تُعزز مكانة فصيل بعينه، دون النظر لأي اعتبار له علاقة بالحاجة الإنسانيّة للمواطن الفلسطيني الذي يدفع ثمن العدوان الإسرائيلي.
ختامًا؛ العمل الخيري الإنساني له دور كبير في إسناد وتمكين الناس في قطاع غزة، ويجب أن يتكامل الدور المؤسّسي مع الجهود التطوعية والفردية؛ لتعزيز قدرة الوصول للجميع، ويجب أن يكون هناك تنسيق بين المؤسّسات ومن لا يأتي طوعًا يجب أن يأتي مكرهًا، فواقع ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ليس كما قبله، ولا يجوز قبول ادّعاء بعض المؤسّسات بأنها قدّمت وعملت بملايين الدولارات في قطاع غزة، فيما لا نرى أثرًا حقيقيًا لعملها على الأرض، ويجب وقف حالة التضارب في أسعار المشروعات، وتقديم الأولويات التي تخدم حاجة الناس، لا إداريات المؤسّسات وموازناتها .