يبدأ الفرنسيون صباح اليوم عمليةَ التصويتِ في الدور الأول لاختيارِ مرشحيهم لخوض الدور الحاسم يوم الأحد القادم، حيث يحتاج المرشح للحصول على نسبةٍ لا تقل عن 12.5 بالمئة من عدد الناخبين المسجلين للعبور إلى الدور الحاسم، هناك حيث ستختلط المشاعر وتتفكك الكثير من التحالفات وصولاً لتشكيل أغلبيةٍ برلمانية مطلقة تبدو منذ اليوم بعيدة عن أي حزب، حيث يبدو التشتت ظاهراً في آراء كل من المرشحين وحتى الناخبين!
بالتأكيد أخذت هذه الانتخابات زخماً كبيراً جعلتها ربما الأهم بتاريخ فرنسا وليس الجمهورية الخامسة فحسب، فالحدث الانتخابي موجود في كل مكان، بأحاديث الشباب والعجزة والعاطلين عن العمل، في القوة الشرائية التي مازالت تتهاوى وما يعنيه هذا التهاوي من عبء اقتصادي على المواطن الفرنسي، الحدث الانتخابي لم ينج منهُ حتى معسكر المنتخب الفرنسي المشارك بكأس أمم أوروبا في الجارة ألمانيا، مع تعديلٍ بسيط في خطابِ اللاعبين المنحدرين من أصولٍ غير فرنسية حيث إنهم وبطلبٍ من الاتحاد الفرنسي لكرةِ القدم لم يقوموا هذه المرة بمهاجمة اليمين المتطرف بالاسم أو الدعوة لمقاطعتهِ، بل اكتفوا بدعوةِ الفرنسيين للذهاب إلى التصويت بكثرة لقطع الطريق عن ما سموهم «أولئك الذين يبثون خطاب الكراهية»، لكن يبقى السؤال المطروح: أي ملامحَ سياسية ستحملها هذهِ الانتخابات؟!
قبلَ بدءِ الانتخابات الأوروبية قلنا إنها ستكون علامة فارقة في تاريخ فرنسا، هذا ما حدث فعلياً حيث أدت إلى حل البرلمان من قبلِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والدعوة لانتخاباتٍ مبكرة، هذه الخطوة لاقت انقساماً في الشارع الفرنسي ميزه طرفين أساسيين:
الطرف الأول رأى أن خطوة الرئيس ماكرون متسرعة، وهناك من ألمح بأن القرار كان ارتجالياً لم يُستشر بهِ حتى أقرب المقربين لماكرون، ويمكننا تلخيص فكرة اعتراض هؤلاء بأن ماكرون بدلَ قتل الزخم وارتفاع المعنويات في المعسكر اليميني عقبَ الانتصارِ الساحق، ذهبَ لإعطائهم فرصة من ذهب للاستثمار بهذا الزخم إلى الحد الأبعد.
تبدو وجهة النظر مقبولة فالزخم الذي يتحدث بهِ اليمين المتطرف اليوم خلال المناظرات والحملات الانتخابية كسرَ كل القيود، اليوم لم تعد تهديداتهم موجهة فقط للمهاجرين الجدد وإغلاق الأبواب الفرنسية أمامهم، اليوم هناك مشروع جديد يستعدون لطرحه فورَ فوزهم بالانتخابات يمنع مزدوجي الجنسية من الحصول على وظائف في الدولة المتوسطة والعليا بما فيها معلمو المدارس وصولاً إلى أساتذة الجامعات إلا بشرط التخلي عن الجنسية الأم أو أن يكون تاريخ حصوله على الوظيفة سابقاً لدخول القانون حيز التنفيذ، لكن عندما تسأل أحد المنتسبين إلى هذا الحزب سؤالاً من وحي الفكرة: وماذا عن مزدوجي الجنسية الذين يمارسون نشاطاً تجارياً ويعمل لديهم فرنسيون أباً عن جد؟ لا جواب! على مبدأ المثل الفرنسي الشهير: من يدفع.. يحكم ويقرر!
الزخم الذي يتمتع به اليمين المتطرف وصل حتى إلى إعلان قرارهم بأن يكون جوردان بارديلا هو مرشحهم لرئاسة مجلس الوزراء، هذا الاختيار أثار الكثير من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، المشكلة هنا عند الكثير من الفرنسيين ليست بطروحاتهِ المتطرفة لكنهم يتحدثون عن خبرته شبهَ المعدومة في العمل العام وتحصيله العلمي الذي لم يتجاوز شهادة الدراسة الثانوية، فيما يبدو خيار مارين لوبين لشغل هذا المنصب بعيداً رغم خبرتها القانونية لكونها منذ الآن تتجهز لخوض معركة الرئاسة ضد خصوم أقل منها بكثير كرئيس الوزراء الأسبق إدوار فيليب.
أخيراً وصل هذا الزخم لحد إعطاء استطلاعات الرأي ما نسبته 36 بالمئة من حجم الأصوات لليمين المتطرف وهي النسبة ذاتها التي أعطتهم إياها الاستطلاعات عشيةَ فوزهم بالانتخابات الأوروبية، ما يعني أن الأرقام لا تكذب وما جرى في الانتخابات الأوروبية قد يتكرر خلال الأيام القادمة، فهل فتح ماكرون على نفسه أبواب جهنم تحديداً أنه لن يكون قادراً على حل البرلمان مرة جديدة إلا بعد مرور عام كامل على إعلان المجلس الدستوري لنتائج الانتخابات الحالية.
الطرف الثاني هو الذي دافع عن قرار إيمانويل ماكرون بحل البرلمان، تحديداً ما يمكننا تسميتهم بالمعتَّقين سياسياً ويملكون خبرات كبيرة في الحياة السياسية الفرنسية، ويرى هؤلاء أن الخطوة كانت ذكية بهدفين:
الهدف الأول تجريد اليمين المتطرف من هذا الزخم في الانتخابات البرلمانية، ففي حال نجاحهم فلديهم عامان ليحكموا بوجود رئيس من خارج أكثريتهم البرلمانية أو ما يعرف هنا باسم «التعايش» وهو ما سيعرقل هؤلاء عن أي احتمالية لتحقيق أهدافهم ويظهرهم أمام الرأي العام بكونهم مجردَ فقاعات صوتية لا أكثر.
الهدف الثاني هو قيام ماكرون بوضع الفرنسيين أمام مسؤولياتهم، بمعنى آخر ترك الخيار للفرنسيين إما تأكيد قول نعم لليمن المتطرف أو قول لا، وبمعزلٍ عن رأينا بالرئيس ماكرون لكن هذا الكلام يبدو منطقياً وهو يشبه تماماً ما تعيشه فرنسا منذ عقدين من الزمن عندما يتم الاختيار بين السيئ والأسوأ في الانتخابات الرئاسية، فالأغلبية المطلقة التي صوتت لماكرون وقبله لساركوزي وهولاند لم يصوتوا حباً بهم بل لتلافي اليمين المتطرف، ووضع الفرنسيين أمام مسؤولياتهم يبدو سلاحاً ذا حدين ربما قد لا نبالغ إن قلنا إنه يحتاج إلى معجزة لتحقيقه، فمن هو القادر على قلب المعطيات؟
منذ بدء الحملات الانتخابية تبدو فرنسا وكأنها تحولت إلى ورشة عمل تهدف إلى وقف المد اليميني، الكثير من التحالفات تبدو ضرورة أمر واقع كدعم بعض اليسار المتطرف لليسار أو لحزب الخضر، كما شكلت الدعوة لدفع الفرنسيين للتوجه إلى صناديق الاقتراع إحدى ركائز هذهِ الورشة والحملة بالتأكيد تستهدف أبناء الجاليات الإسلامية فكيف ذلك؟
في الأحاديث الجانبية مع الكثير من الفرنسيين الذين لا يحملون أفكاراً متطرفة يطرح هؤلاء وجهة نظرهم ببعدين:
البعد الأول ينطلق من فكرة أن ارتفاع المد المتطرف يتحمل سببه الكثير من المهاجرين أو أبناؤهم وأحفادهم الذين ما زالوا بعيدين كل البعد عن فكرة الاندماج، ويقدمون صورة لا تليق بالكثير من بني جلدتهم الذين اندمجوا فعلياً دونما إحداث خلل في عاداتهم وتقاليدهم بل إن بعضهم وصل إلى مناصب عليا في الدولة، لماذا ينزعج البعض من عبارة: إن لم تكن فرنسا تستحوذ على إعجابك فبإمكانك مغادرتها!
البعد الثاني يرتكز إلى مقاطعة هؤلاء بشكلٍ دائم للعملية الانتخابية من منطلق أن الانتخابات لا تعنيهم، رئيس إحدى البلديات الصغرى في مقاطعة الوسط تحدث إلينا بهذه النقطة عندما اعتبرَ بأن هناك من كان يدعو أبناء الجاليات لمقاطعة الانتخابات وبالوقت ذاته يكيلون الاتهامات للمجتمع الفرنسي بوصفه «عنصرياً» لكونهم صوتوا لليمين المتطرف!
مقاربة للأسف تبدو صحيحة، هذه العبارة نسمعها كثيراً بل إن أسوأ ما قد تسمعه هو عبارة «الانتخابات حرام»! لكن النظرة هذه الأيام تبدو مختلفة، حتى خطباء الجوامع دعوا المصلين للمشاركة في الانتخابات لوقف هذا المد الذي لن يرحم أحداً، فماذا ينتظرنا؟
يُقال إن نتائج الدور الأول غالباً ما تكون انعكاساً لخيارات الناخب في الدور الثاني، لكن لابد من تركِ مجالٍ لمفاجآت اللحظة الأخيرة، هذه المفاجأة قد لا تبتسم لليمين المتطرف على حساب ماكرون وأزلامه ولا حتى العكس، هذهِ المفاجأة قد تبتسم لما يسمونه اليسار المتطرف، هل يفعلها الرفيق جان لوك ميلانشون ويقلب الطاولة على الجميع؟
أحد «ختايرة» السياسة الفرنسية قال بالأمس: ربما أنه في الوقت الذي تتجه التحذيرات فيه نحو اليمين المتطرف وما قد يعنيه التقاعس عن التصويت من تسليمهم مقاليد الحكم، يتسلل اليسار المتطرف بكل هدوء، هذه المقاربة تبدو سليمة.. ياليتها تصبح حقيقة! عدا عن ذلك يبدو من السذاجة بمكان انتظار المفاجآت!