واقع الموازنة العامة في فلسطين
يلاحظ أنّ هيكل النفقات العامة بشكل عام، أعلى من هيكل الإيرادات، وحتى مع وجود المنح والمساعدات الخارجية تبقى فجوة تمويلية، لا يمكن تغطيتها، وهذا خلل تراكمي بنيويّ في الموازنة العامة وليس وليد سنة أو سنتين، ولا تتحمل مسؤوليته حكومة بعينها، وهو سبب رئيس في عدم قدرة السلطة الفلسطينية الوفاء بالتزاماتها المختلفة، ومن ضمنها رواتب موظفي القطاع العام
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن واقع الموازنة العامّة في فلسطين، والأزمة الماليّة للسلطة الفلسطينية، وكالعادة (فاض) الفضاء الافتراضي، ومواقع التواصل الاجتماعي، بالتحليلات والآراء والنظريات، والمعلومات الحصرية، والسريّة، والخاصّة، والعامّة، والمصادر الرفيعة، والمطّلعة، وغيرها عن واقع الموازنّة العامة والأزمة الماليّة للسلطة الفلسطينية، بعضها دقيق، والسواد الأعظم منها جزافيّ.
ومن أجل تحرّي الدقة والمعلومة الصحيحة، المعتمدة من مصادرها والموثّقة تبعاً للأصول العلمية، كان لزاماً عليّ كباحث أن أتحرّى الحقيقة أينما وجدت، فالرقم الدقيق هو ضالتي، أينما وجدته موثقاً أعْتَمِده، بعيداً عن الاجتهادات العشوائية، أو المصادر المبنية للمجهول، أو نظريات المؤامرة، او التحليلات الجزافية، لذا سأرفق في هذا المقال واقع الموازنة العامّة في فلسطين، موثقاً بالأرقام المعتمدة.
الموازنة العامة هي برنامج مفصل لنفقات السلطة الوطنية وإيراداتها لسنة مالية معينة، ويشمل التقديرات السنوية لإيرادات السلطة الوطنية والمنح والقروض والمتحصلات الأخرى لها والنفقات والمدفوعات المختلفة. وتنّظم من خلال قانون رقم (7) لسنة 1998 بشأن تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية، وتعديلاته، وتصدر سنوياً من خلال قانون خاص في كل عام ميلادي، وتبدأ الموازنة السنوية في 1 كانون ثاني/ يناير من كل عام، وتنتهي في 31 كانون أول/ ديسمبر، وتتضمن دورة الموازنة العامّة السنوية أربع مراحل رئيسة وهي: الاعداد، الاعتماد، التنفيذ، المتابعة، ونظرياً يتم اعدادها من قبل السلطة التنفيذية، بقيادة وزارة المالية، وإقرارها من المجلس التشريعي بعد نقاشها بالتفصيل، واعتمادها من الرئيس، وتنّفذ من قبل مراكز المسؤولية المختلفة، وتتم متابعتها والرقابة عليها من الأجهزة الرقابية الرسمية “ديوان الرقابة المالية والإدارية”، والمساءلة عليها من قبل السلطة التشريعية، إضافة إلى المساءلة المجتمعية.
وتبعاً لعدم إقرار الموازنة العامة 2024 لغاية نشر هذا المقال، فسأعمل على عرض واقع الموازنة العامة 2023، حيث بلغت قيمة الموازنة العامة (21) مليار شيكل، وبلغت اجمالي الإيرادات المتوقعة (18.6) مليار شيكل، منها (12) مليار شيكل عبر المقاصّة مع إسرائيل، وحوالي (6.6) مليار شيكل الإيرادات المحلية التي تجبيها السلطة الفلسطينية وهي على شقيّن: إيرادات ضريبية، ورسوم ورخص وعوائد استثماريةـ الأمر يعني أن إيرادات المقاصّة تشكّل ثلثي الإيرادات العامة.
أما المنح والمساعدات الخارجية، فقد فقدرت في العام 2023 بمبلغ (1.5) مليار شيكل فقط، جزء منها للموازنة العامة، وجزء تمويل تطويري لمشاريع مختلفة، وابقت الموازنة العامة 2023، فجوة تمويلية بدون أي غطاء بقيمة (1.2) مليار شيكل، وحال إضافة الاقتطاعات الإسرائيلية السنوية من إيرادات المقاصة (ما قبل العدوان الاسرائيلي على غزة، والاقتطاعات الاضافية)، تصبح الفجوة التمويلية حوالي (2.1) مليار شيكل.
وفي ضوء ما سبق، يلاحظ أنّ هيكل النفقات العامة بشكل عام، أعلى من هيكل الإيرادات، وحتى مع وجود المنح والمساعدات الخارجية تبقى فجوة تمويلية، لا يمكن تغطيتها، وهذا خلل تراكمي بنيويّ في الموازنة العامة وليس وليد سنة أو سنتين، ولا تتحمل مسؤوليته حكومة بعينها، وهو سبب رئيس في عدم قدرة السلطة الفلسطينية الوفاء بالتزاماتها المختلفة، ومن ضمنها رواتب موظفي القطاع العام، وكل ما سبق لا يشمل الديّن العام، والذي بلغ نهاية العام 2023 (13.6) مليار شيكل، أو التزامات وديون السلطة الفلسطينية الجارية تجاه الموظفين أو الموردّين من القطاع الخاص، أو الصناديق المختلفة التي تستدين منها، مما يضاعف من ديون والتزامات السلطة الفلسطينيةـ أضعاف رقم الديّن العام المعلن عنه رسمياً.
أمّا على صعيد الانفاق الفعلي، فأن الفجوة الماليّة تتسع باطّراد لأسباب عدّة، منها على سبيل المثال، القرصنة والحجوزات الإسرائيلية من إيرادات المقاصّة، فعلى سبيل المثال خصمت واحتجزت إسرائيل في العام 2023، حوالي (4.3) مليار شيكل من أصل (12.2) مليار شيكل إيرادات المقاصّة الكليّة، وتحت مسميّات مختلفة، أي ما يزيد عن ثلث إيرادات المقاصّة، علماً أن إسرائيل تحتجز منذ شهر نيسان/ابريل 2024، كامل إيرادات المقاصة، ومن الأسباب الأخرى لاتساع الفجوة المالية، وتعمّق الأزمة المالية، عدم التزام الدول المانحة بالمخصصات المخططة، ففي العام 2023، ورغم شح التحويل الخارجي، إلا أنّ المتحقق منه فعلياً أقل من المخطط، إضافة الى انكماش الدورة الاقتصادية في فلسطين اثر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وحصار المدن والقرى والمخيمات، واقتحاماتها المتكررة، وتسريح العمال الفلسطينيين من أعمالهم داخل الخط الاخضر، كل ذلك اثر سلبا على الإيرادات العامّة.
كل ما سبق وصف دقيق لواقع الموازنة العامة في فلسطين، وهو لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا يمكن العمل على تحسين إدارة المال العام، وتعزيز الحوكمة في ادارته، ولكن يجب أن تنصبّ كافة الجهود حالياً على وقف قرصنة إسرائيل لإيرادات المقاصّة، من خلال استراتيجية عمل وطنية متكاملة، كون تلك الإيرادات هي العمود الفقري للموازنة العامّة في فلسطين، وحق للشعب الفلسطيني، وليست منحة من أحد.