حزب البعث وأميركا.. من جديد
طالبان كانت وحدة متماسكة قبل الغزو الأميركي لأفغانستان في سبتمبر 2001، وظلت وحدة متماسكة بعد الغزو، رغم كل القهر الأميركي الذي لم يوفر أداة ولا وسيلة لتمزيق وحدتها، تمهيدا لمحوها من الوجود
البعض من زملائنا المحللين العراقيين الذين تقول الفضائيات التي تستضيفهم إنهم خبراء إستراتيجيون يشطح بهم الخيال فلا يقولون “أتوقع أو أتنبأ”، بل يجزمون ويحكمون ويقطعون بأن أميركا عائدة إلى العراق لتملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وإرهابا وتخلفا واختلاسا وفوضى وهمجية.
وأكثر من ذلك، أنت تُفاجأ بهؤلاء وهم يخبرونك، بلغة العارف المتيقن، بما دار في الاجتماعات السرية الأميركية التي عقدها الرئيس الأميركي مع كبار أعوانه العسكريين والمدنيين.
بل ذهب نفرٌ آخر من هؤلاء المحللين إلى تحديد موعد الفرج العائد إلى العراق على يد أميركا، بالشهر واليوم والساعة، بالتمام والكمال.
حتى أن أحدهم بشرنا، في أكثر من طلة تلفزيونية، بأن واشنطن قد اتخذت قرارها النهائي بإعادة حزب البعث العراقي إلى السلطة.
ويستدل على ذلك بتعيين السفيرة الأميركية الجديدة تريسي جاكوبسون التي توعدت إيران وميليشياتها أثناء استجوابها في الكونغرس. وينسى أن الكلام سهل، ولكن الفعل تحكمه الجغرافيا وتقلب المصالح والسياسات والمستجدات. فكلام السياسيين قبل تسلمهم السلطة، مختلف جدا عمّا بعد وصولهم إليها.
ويذكرنا هؤلاء الزملاء المحللون بأن تريسي جاكوبسون هذه هي التي أشرفت على تسليم أفغانستان لطالبان في أغسطس 2021، وهندست عملية نفض اليد عن جميع العملاء الأفغان الذين سيّدتهم أميركا على بلادهم ردحا طويلا من الزمن، بعد أن ظنوا أن الحضن الأميركي الدافئ دائم ولا يزول.
ومن الممكن مسامحة هؤلاء المحللين على أحكامهم وتخريجاتهم في ما يخص غزة ولبنان ومصر والأردن وإسرائيل، ولكن يصعب علينا هضم بشائرهم بعودة ما أسموه بـ(بعث واشنطن) إلى الحكم في العراق، وتحديدا في النصف الثاني من هذا العام.
وذلك لا يعني أن أميركا عاجزة عن أن تلتقط من تحتاج إليهم من وكلاء وعملاء من سلال المهملات، وتُنصّبهم رؤساء ووزراء وقادة عسكريين في مستعمراتها الفاشلة، ولكن لأن حزب البعث العربي الاشتراكي، نفسه، ليس طالبان فهو قد ماع وساح، ولم يعد له وجود مرئي وملموس.
طالبان كانت وحدة متماسكة قبل الغزو الأميركي لأفغانستان في سبتمبر 2001، وظلت وحدة متماسكة بعد الغزو، رغم كل القهر الأميركي الذي لم يوفر أداة ولا وسيلة لتمزيق وحدتها، تمهيدا لمحوها من الوجود.
إلى أن اعترف صانع القرار الأميركي بعجزه، واقتنع بأن وكلاءه، كرزاي ثم أشرف غني وغيرهما، أضعف وأصغر من قهر طالبان، وأعجز عن بعثرة أتباعها وشراء ذممهم وتحويلهم إلى خدم في أحزابهم، كما حدث للآلافِ من البعثيين العراقيين الذين لم يجدوا عيبا أن يتحولوا من مناضلين قوميين وحدويين اشتراكيين إلى خدم ومخبرين ومستشارين لدى قادة الأحزاب الطائفية التي لا تخجل من أن تعلن دائما وبصراحة أن ولاءها ليس للوطن العراقي، ولا للأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، بل هو كله للإمام القابع وراء الحدود.
ثم، أيُّ بعث هذا الذي يمكن أن يعود إلى السلطة؟ وقد رأينا أن غياب صدام حسين يَتَّمَ حزب البعث وجعله كعصفٍ مأكول؟
وحتى حين خلفَه في القيادة نائبُه عِزّة الدوري لم تعد للحزب هيبته السابقة، ولم يَقتنع كثيرون من البعثيين بقيادته، ولم يعودوا إلى خيمة الحزب من جديد.
ولا ننسى أن النائب عزة الدوري الذي تولى أمانة سر القطر بدلا عن قائده صدام حسين الذي غزا الكويت، قدم اعتذرا تلفزيونيا لأهل الكويت، وأعلن أن الغزو كان “خطيئة كبرى، وعملا لا أخلاقيا”، ثم لم يرد عليه رفاقُه البعثيون.
إن واقع الأمر هو أن حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي لم يعد قادرا على لم شعثه إلا صدام حسين حين يعود من قبره المجهول.
لقد كان مؤملا أن حزبا جماهيريا بضخامة حزب البعث وعمق تاريخه وخبرته وتجاربه سيخرج من كارثة 2003 متجاوزا آثارها السيئة بأقل ما يمكن من الجروح والشروخ. مثلما حدث لأحزاب عديدة في الشرق والغرب، حين استفاقت من الصدمة بسرعة، وقامت بدراسة الأسباب الموضوعية التي قادت إليها، وحللتها بدقة وعلمية وموضوعية، بعيدا عن التطرف والجمود والانكفاء على الذات، فغيرت ما يستوجب التغيير، وعالجت ما علق بمسيرتها من المثالب والعيوب والثغرات، وغيرت خطابها، وطهرت صفوفها من المرضى والعجزة والفاشلين والفاسدين، وخرجت على جماهيرها بروح جديدة، وثياب جديدة، وحتى بأسماء جديدة، وعاودت المسير، فانتزعت الريادة في زمن قصير.
وصدق القيادي البعثي الدكتور هاني الحديثي الذي خاطب من أسماهم بـ(جماعة هذا مو وقتها) حين قال لهم، إن المراجعة والمكاشفة والمصارحة في نقد المسيرة (أي مسيرة) أمر طبيعي وضروري، أولا بأول، لتقويم الأخطاء وتصويب المسار.
وإذا لم يكن قد حان وقت المراجعة والمكاشفة ونقد الأخطاء، بعد عقود من الفشل والانتكاسات والهزائم، فمتى يحين؟
لقد كان الواجب يُحتم على القيادات البعثية التي تسلمت المسؤولية بعد كارثة أبريل 2003 أن تسارع إلى الاعتراف، بشجاعة وموضوعية، بأخطاء الماضي، وأن تجري تغييرات وتعديلات جوهرية في خطاب الحزب ومفاهيمه، وأن تستبدل الأدوات الفاشلة السابقة بما يصلح للعمل في الواقع الجديد، وأن تتخلى عن لغة التخوين والتهديد والشتيمة، وتعتمد لغة المنطق والحوار الديمقراطي، لا مع خصوم الحزب وأعدائه فحسب، بل مع أعضائه أنفسهم، وتطوي الماضي المثقل بالمشاحنات والاعتداءات والانحرافات، وتعمل على إعادة الثقة المفقودة مع جماهير الشعب العراقي من جديد.
لكن الذي نراه اليوم من البعثيين شيءٌ آخر لم يحدث من قبلُ إلا لأحزاب طفيلية هامشية أخرى فرضتها على الجماهير سلطة غاشمة، بقوة سلاحها وأموالها. ثم حين انهار نظام تلك السلطة تمزق حزبُها، وتبعثرت قواعده وقياداته، وضاع في بحر الزمن المخيف، وأصبح شيئا من الماضي بسرعة وكأنه لم يكن، كما هو حال حزب موسليني وحزب هتلر وغيرهما من الأحزاب الفاشلة العديدة في التاريخ.
ونعود لنسأل زملاءنا المحللين العراقيين الذين يبشرون بعودة حزب البعث إلى السلطة من جديد، هل يمكن أن تعثروا لنا على واحد يمكن أن يكون حافظ الأسد أو أحمد حسن البكر أو صدام حسين، ليعيد لم الشمل، ويضع العربة على سكة السلامة، بالعصا والمسدس والسكين؟