تونس

لماذا تتعطل المشاريع الحكومية في تونس

◄ في السنوات الأخيرة ضعفت الدولة وتراخت قبضتها وتمكنت منها مجموعات حزبية غير ذات خبرة، وفي المقابل زاد نفوذ اللوبيات التي تتحكم في المشاريع والعروض

هناك الكثير من المشاريع المعطلة أو التي تسير ببطء كسلحفاة لن تدرك خط النهاية إلا بعد صعوبات كثيرة. مشاريع متنوعة، لكن أكثرها وضوحا هي مشاريع البنية التحتية من طرقات سيارة بين الولايات وأخرى داخل الولايات وكذلك المؤسسات الصحية.

ليس هناك شك في أن الدولة تعمل ما في وسعها لضخ الأموال ومتابعة المشاريع على مستوى عال، وخاصة من الرئيس قيس سعيد. كل رئيس يريد أن يترك بصمة واضحة في سجله. وحمل قيس سعيد في خطاباته الكثير من المشاريع الواعدة مثل المدينة الصحية بالقيروان التي ستساهم “في توفير نحو 50 ألف وظيفة في مختلف الاختصاصات، وستعيد للقيروان بريقها ومكانتها التاريخية”، كما جاء في كلمة له في شهر فبراير 2021.

ويتابع الرئيس التونسي باستمرار مراحل تقدم مشاريع الطرقات السريعة مثل تونس – جلمة، وهي طريق تهدف إلى ربط العاصمة بولايات الوسط والجنوب الغربي، وطريق صفاقس – القصرين. كما يتابع المشاريع الصحية في عدة مناطق خلال لقائه بالوزراء.

لا شك أن التعطيل في جانب منه مرتبط بالبيروقراطية وسوء الرقابة والمتابعة وتدخل الفساد في الصفقات العمومية، وهو ما يقف عليه التونسيون منذ عقود، وخاصة في السنوات الأخيرة حين ضعفت الدولة وتراخت قبضتها وتمكنت منها مجموعات حزبية غير ذات خبرة، وفي المقابل زاد نفوذ اللوبيات التي تتحكم في المشاريع والعروض وتمنع غيرها من الحصول عليها، ثم تنفذها على مقاساتها بشكل يجعل الوزارة المشرفة تعود إليها في كل مرة لإصلاح ما فسد جزئيا أو كليا.

الجهات الرقابية الحكومية إما غائبة كليا أو أن دوائر منها تستفيد من الفساد بالمشاركة السلبية والتغاضي، وإلا ما كان يمكن أن تقبل بأن ينفذ مقاولون طرقات محلية أو مسالك زراعية بأسوأ طريقة تجعلها مليئة بالحفر مع الأشهر الأولى للاستعمال وأحيانا تنكسر إلى نصفين أو أكثر مع الأمطار الغزيرة.

يقف الكثير من الناس الذين يعودون إلى المناطق الداخلية بمناسبة الأعياد على حجم التلاعب في الطرقات الرابطة بين المدن وكيف تظهر عليها العيوب سريعا لأنها لا تنفذ وفق المقاييس المتفق عليها، ما يضطر الجهات الحكومية (وزارة التجهيز وإداراتها المختلفة) إلى ضخ الأموال للترقيع والاستصلاح الموضعي، وتكليف نفس المقاولين بالمهمة، ليعود الوضع كما كان عليه بعد أشهر قليلة.

أموال الدولة تنفق في حلقة مفرغة ولا تقدر على وقف النزيف، وهو ما يشير إليه الرئيس سعيد باستمرار من خلال الحديث عن اللوبيات وكارتلات الفساد.

سيكون من الصعب على الحكومة الحالية، إن كانت ساعية ومتحمسة للقطع مع أمراض الفساد والمحسوبية، أن تحل هذه المشاكل في يومين أو شهرين أو حتى عامين. لكنها يمكن أن ترسل إشارات قوية إلى طبقات الفساد التي تُراكم بعضها بعضا وتخنق الناس بأنها ستطال الفاسدين عاجلا أم آجلا.

يبقى أن هناك مشكلة تتعلق بالدولة نفسها، فتعطل المشاريع لا يقف وراءه فقط الفساد، ولا سيطرة اللوبيات التي تضع أيديها على مختلف المشاريع ولا تنجزها. هناك مشكلة حقيقية، وهي أن الدولة لا تمتلك التمويلات الكافية لتنفيذها. هناك مقاولون يضطرون لتعطيل المشاريع التي اتفقوا مع الجهات الحكومية على تنفيذها بسبب غياب التمويل.

الدولة تطلب البدء في التنفيذ ثم انتظار التحويلات المالية، وهي عملية صعبة في الوقت الحالي لأن الدولة لديها الكثير من أبواب الصرف ولا تمتلك الأموال الكافية فتضطر لتمشية الأمور بالوعود والتعهدات، وهو ما يفسر منح المشاريع أحيانا لمقاولين لديها عليهم مؤاخذات، وهي تعرف أنهم يمكن أن يصبروا إلى حين توفر السيولة.

ليست المشكلة في الخطط ولا البرامج، فهي موجودة ومتراكمة، وخاصة المشاريع الكبرى وبعضها مضبوط من قبل ثورة 2011 مثل الطريق السريعة تونس – جلمة، أو توسعة المستشفيات الجهوية، وبناء مستشفيات محلية في المناطق الداخلية من أجل تخفيف الضغط عن مستشفيات المدن الكبرى مثل تونس أو صفاقس أو سوسة التي باتت عاجزة عن استقبال كل المرضى القادمين من ولايات الفقر والتهميش (القصرين، قفصة، الكاف سليانة، سيدي بوزيد، القيروان).

يجب الاعتراف بأن الرواتب في القطاع الحكومي تستنزف قدرات الدولة وتمنعها من الإيفاء بتعهداتها ولو في الحد الأدنى. وهذا وضع طرأ بعد 2011 حين قررت الأحزاب الحاكمة احتواء الاحتجاجات والمظاهرات والمطالب المتزايدة وضغط النقابات بتشغيل عشرات الآلاف في الوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية دون حاجة إليهم. كما حصلت عمليات توظيف شعبوية ودون مقاييس لعمال الحضائر، وهم بالآلاف، ونجحت اللوبيات والأحزاب في تسريب أنصارها إلى الوظيفة العمومية عبر انتدابات مشبوهة.

يضاف إلى ذلك تمسك الدولة بمسار شعبوي آخر يقوم على توزيع مساعدات ومنح ثابتة على ضعاف الحال ليقدروا على مواجهة الغلاء، وهي خطوة سياسية أكثر منها مقاربة لتطوير الاقتصاد وتحسين أدائه.

وتوزيع مساعدات ثابتة على هذه الفئات يتم عادة ضمن منظومة الإصلاح الاقتصادي التي يدافع عنها صندوق النقد ويربطها بتقليص الدعم الحكومي للمواد الأساسية بأن يذهب الدعم لمستحقيه. ولا يُعرف هل أن الحكومة التونسية سلكت هذه الخطوة بشكل استباقي لتحضير الناس لما هو آت من إصلاحات، أم أن الأمر مرتبط بالمسار السياسي؟

وفي مقابل التضخم البشري والمالي في مؤسسات الحكومة، أهملت الدولة الاستثمار في القطاع الخاص وتركت المؤسسات المتوسطة والصغرى لمصيرها لتُغلق المئات منها ويخسر الآلاف من العمال، وأغلبهم من الشباب، مواطن شغلهم وتخسر معهم الدولة عائدات الضرائب والمساهمات المالية في الصناديق الاجتماعية التي كان جزء منها يذهب لتحسين الخدمات، وخاصة الصحية.

والمفارقة هنا أن الدولة تعمل على التقشف أكثر ما يمكن في الإنفاق من أجل توفير السيولة الخاصة بخلاص الديون المتأتية من القروض الداخلية والخارجية. وبما أن التقشف لا يمكن أن يطال الرواتب الحكومية، وهو الباب الأكبر للإنفاق في الميزانية، فستجد نفسها مجبرة على التقشف من أموال مشاريع البنية التحتية والأموال المرصودة للخدمات العامة من صحة وتعليم.

سيكون من المهم أن تفتح الدولة الباب أمام التمويلات الخارجية لهذه المشاريع ضمن اتفاقيات ثنائية مع الدول أو مع المؤسسات الإقليمية الأوروبية أو العربية. لا حل سواه خاصة أن تجارب الشركاء الأوروبيين والعرب باتت تميل إلى تمويل المشاريع بشكل مباشر على القروض التي تعطى للحكومات المحلية لتتولى هي بنفسها الإنفاق.

معادلة جديدة لا تهم تونس لوحدها ولا يمكن تفسيرها على أنها موقف سياسي، فدول الخليج والاتحاد الأوروبي والصين والصناديق المالية الدولية المختلفة كلها تسير في اتجاه تمويل المشاريع ومراقبتها ومتابعة تنفيذها خطوة بخطوة وربط التمويل بالمراحل التي تقطعها، والتوقف عن تمويل الحكومات بسبب تعقيدات الفساد وسوء التوظيف.

ويمكن أن نشير هنا إلى الوعود بالتمويل التي حصلت عليها تونس خلال مؤتمر الاستثمار الأخير الذي عقد في البلاد.

ووقعت تونس اتفاقيات تمويل بقيمة 270 مليون يورو مع جهات أوروبية مانحة في “منتدى تونس للاستثمار” لدعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وعلى تمويل بـ210 ملايين يورو للمساعدة على استكمال طريق سيارة تربط ولاية (محافظة) صفاقس بولايات (محافظات) الوسط.

وبالنتيجة، فإن الدولة تحتاج إلى أن تخرج من وضع الهجوم على لوبيات الفساد وتحميلها مسؤولية التعطيل، وإن كان هذا جزءا من المشكلة، والبحث عن التمويلات الضرورية لإنجاح مشاريعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى