أوروبا التي تمثل مزاج عصرنا!
ليست أحزاب اليمين سوى فقاعة ستتخطاها الديمقراطية غير أن الدرس كان ضروريا لكي يتعلم الأوروبيون أن قارتهم التي وصفها الأميركان بالقارة العجوز ينبغي أن تنتبه لدورها في صناعة التاريخ
انتصار قوى اليمين في الانتخابات الأوروبية ثمرة من ثمار الديمقراطية الغربية. يمكننا أن نندهش لهذا التحول في المزاج الشعبي، لكن لا يحق لنا أن نستنكره. لا لأنه شأن أوروبي داخلي فأوروبا هي مُلك العالم كله وهي لاتزال بوصلته، بل لأن ما حدث هو خيار شعبي، جاء ردا على فشل الأطراف الأخرى من اليمين المعتدل حتى اليسار. أوروبا التي أخفقت في حل المسألة الأوكرانية قبل أن تضطر روسيا إلى التورط في حرب عبثية هي نفسها التي لم تجد أمامها خيارا مستقلا حين شنت إسرائيل عدوانها على غزة. في الحالتين كان واضحا أن الأمور ستنزلق إلى هاوية ليس من اليسير مغادرتها إلا بعد وقوع كوارث إنسانية كان من الممكن تفاديها أو التقليل من أضرارها لو أن أوروبا جنحت إلى السلم ولم تظهر باعتبارها طرفا محاربا يُشَكُّ في قدرته على اتخاذ القرار.
في ما يتعلق بالمسألة الأوكرانية كان في إمكان أوروبا أن تلتزم الحياد وتكون طرفا محايدا يصلح أن يقوم بدور الوسيط الإيجابي الذي لا يكتفي فقط بنقل وجهات نظر الطرفين بل ويساهم أيضا في إغناء الحوار بينهما بما يمكن أن يراه نافعا في تضييق المسافة بينهما وهما مختلفان تاريخيا وجغرافيا. غير أن أوروبا أدارت ظهرها لقيمة ما يمكن أن تقوم به وتبعت الموقف الأميركي المعادي مبدئيا للروس. خسرت أوروبا أوكرانيا وهي جزء منها غير أنها في الحقيقة خسرت روسيا التي لم تكن تضمر العداء لها، بل كان من الممكن أن تنضم إلى اتحادها لولا أنها اختارت أن تعود إلى أيام الحرب الباردة وهي اختراع أميركي. يندب الرئيس الفرنسي ماكرون حظه اليوم وهو يشهد صعود معارضيه غير أنه قد لا يفكر في ما فعله حين تخلى عن دور الوسيط ليزج بفرنسا طرفا في حرب، استضعفتها سياسيا.
أما فيما يتعلق بحرب غزة فقد كانت أوروبا متفهمة لحق الفلسطينيين في إنشاء دولتهم المستقلة إلى جوار الدولة العبرية بحيث أن كثيرا من عواصمها تضم سفارات تمثل دولة فلسطين وترفع العلم الفلسطيني على مبانيها. في الحروب السابقة التي شهدتها غزة كان موقف أوروبا يقوم على الحرص على أرواح المدنيين بحيث سعت دائما إلى الضغط على إسرائيل لتوقف حربها وتحل مشكلاتها عن طريق الحوار. أما أن تلجأ دول أوروبية مثل ألمانيا إلى اعتبار نفسها طرفا في الحرب ضد الفلسطينيين فذلك موقف لا يعبر إلا عن غياب الموقف المستقل والانضمام بطريقة قطيعية إلى الرؤية الأميركية التي هي صناعة صهيونية. ما حدث أن زعماء الاتحاد الأوروبي استهانوا بطريقة مجحفة بمسعى الاتحاد إلى أن يكون قوة ثالثة وأعادوا أوروبا إلى المرحلة التي سبقت قيامه. وذلك بالتأكيد كان حلما أميركيا.
انتصر اليمين الأوروبي بتأثير من اليأس الشعبي من إمكانية أن تنقذ الحكومات القائمة أوروبا من ضعفها. سيُقال إن هناك أزمات داخلية هي التي تقف وراء ذلك التحول في المزاج الشعبي. ذلك صحيح غير أن الصحيح أيضا أن أوروبا التي لم تعد أوروبا ما كان في إمكانها أن تقنع ناخبيها أن حكوماتها كانت مضطرة للعمل على تراجع مكانتها العالمية. لا يميل اليمين الأوروبي إلى روسيا أو الفلسطينيين، ولكنه بالتأكيد لا يميل إلى أن تكون أوروبا تابعة للولايات المتحدة كما لو أنها الخادم الذي يعمل في بلاطها. لكن من قال إن الأوضاع في أوروبا ستكون أسوأ في ظل حكم اليمين؟ لقد تغير العالم. لم يعد اليمين كما عرفناه من قبل. كما أن يمين الشعارات الانتخابية هو غير يمين الحكم. الديمقراطية في أوروبا هي قوة رقابة وفي إمكانها أن تنقلب على كل شيء قائم.
ليست أوروبا في مواجهة مصير مجهول. أوروبا ستكون أفضل. لا لأنني أراهن على قوى اليمين الذي هو مجموعة من القوى العبثية، بل لأنني أومن بأن أوروبا التي ضلت طريقها تحت تأثير الضغط الأميركي ستستعيد مكانتها من خلال صعود قوى جديدة تؤمن بها قوة ثالثة. وليست أحزاب اليمين سوى فقاعة ستتخطاها الديمقراطية وتتركها وراءها. غير أن الدرس كان ضروريا لكي يتعلم منه الأوروبيون أن قارتهم التي وصفها الأميركان في وقت سابق بالقارة العجوز ينبغي أن تنتبه لدورها في صناعة التاريخ. فأوروبا لاتزال هي الميزان في عالمنا المعاصر وكل ما يصدر عنها يمثل مزاج عصرنا.