في تاريخ الحروبِ العربية الإسرائيلية، والفلسطينية – الإسرائيلية، لم نشهد محاولةً لوقف النار أصعب وأكثر تعقيداً من وقف النار في غزة. الأسباب كثيرة، وهناك إلقاءٌ للَّوم على الطرفين المتصارعين، إسرائيل و«حماس» أو إحداهما دون الأخرى. لكنَّ كثيرين وبينهم هنا في العاصمة واشنطن يحمّلون واشنطن والرئيس الأميركي جو بايدن المسؤوليةَ في وصولِ الأمور إلى الحدّ الذي وصلت إليه، من دون استخدامِ النفوذ الأميركي لوقف الحرب، خصوصاً أنَّ خطرَ توسُّعِها أصبحَ كبيراً في ازدياد حدَّةِ المواجهة بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان، لكنَّ الإدارةَ الأميركية وحلفاءها يعترضونَ على تحميل الرئيسِ الأميركي المسؤوليةَ، ويشيرون إلى خطةِ وقف النَّارِ التي أعلنَ عنها الرئيس بايدن.
هذه الخطة غامضة المصدر، هل هي خطة بايدن، أم خطة إسرائيل، تبناها مجلس الأمن، ومع ذلك لم تجرِ الموافقة عليها رسمياً من إسرائيل بعد؟ وتراوح الحربُ مكانَها مع الثمن الغالي الذي يدفعه المدنيون يومياً؛ ما يزيد الضغطَ على الرئيس بايدن داخلياً ودولياً لوقف الحرب، ولكن الضغط الأكبر هو الجدول الزمني لحملته الانتخابية الذي أصبح ضاغطاً عليه قبلن نحو 5 أشهر من الانتخابات. فلماذا لا يستخدم بايدن نفوذ واشنطن على إسرائيل لوقف الحرب، والسماح له بالتركيز على الانتخابات؟
يتساءل الكثيرون هنا: لماذا لا يقف بايدن موقفاً حاسماً كما فعل رؤساء أميركيون من قبله، في حروب أخرى وأوقفوا الحرب؟ هناك مثلان أمامه وكلاهما يتعلق باجتياحين إسرائيليين للبنان الأول 1982 واحتلال بيروت، والثاني حرب إسرائيل و«حزب الله» واجتياح جزئي للبنان عام 2006.
الرئيس رونالد ريغان وحسب تفاصيل نشرها نائب وزير الخارجية السابق ديفيد هيل في كتابه، طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها مناحيم بيغن، احترام اقتراح وقف النار، وقال: «قلت لبيغن إنه إذا لم يلتزم (وقف النار) فإنه يمكنه توقع تغيير قاسٍ في العلاقة الأميركية مع إسرائيل». وانتهت الرسالة لبيغن بالتهديد «إن العلاقة بين بلدينا على المحك». وأخبر الصحافة بأنه فقد صبره مع إسرائيل. وزير الخارجية جورج شولتز أراد إدانة قوية لإسرائيل، لتحديها الرئيس ريغان حسب الكتاب.
وعندما لم يرتدع وزير الدفاع الإسرائيلي إرييل شارون، وصعّد بقصف بيروت، اتصل ريغان ببيغن وذكره بما قال في رسالته السابقة عن تأثير ما تقوم به إسرائيل على العلاقة كلها، وقال له: «إن رمز إسرائيل أصبح صورة طفل ابن 7 أشهر قطع القصف يديه».
بيغن منع بعدها أي عمل عسكري في لبنان دون موافقة مجلس الوزراء، وقام المجلس بسحب صلاحيات شارون في إعطاء أوامر لسلاح الطيران للقيام بأي نشاط. وافق بعدها أيضاً مجلس الوزراء الإسرائيلي على خطة إنهاء الحرب. لكن بعد ذلك ورغم التطمينات الإسرائيلية وحلفائها من الفصائل اللبنانية، حصلت مجزرة صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين.
تحكي وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في كتابها «شرف لا يعلى عليه»، تفاصيل التوصل إلى وقف النار بعد حرب 2006 في لبنان، وكيف أصبحت أميركا معزولة بسبب دعمها إسرائيل في الحرب، وكيف قالت لرئيس وزراء إسرائيل يهود أولمرت: «أنهها»، أي الحرب بعد قصف موقع تابع للأمم المتحدة في الجنوب ومقتل العشرات من المدنيين. وأضافت: «بعد اليوم لم يعد لديك أرضية للوقوف عليها. وأنا لن أسمح لك بإسقاط أميركا معك».
ومثل اليوم كان وقف النار زئبقياً، ولكن عندما دعا الرئيس جورج بوش مسؤوليه إلى اجتماع علم أنَّ نائبه ديك تشيني يعمل من وراء ظهر رايس، ويوحي لإسرائيل أنَّ أميركا تؤيد استمرار الحرب مع أنَّ رايس كانت على وشك التوصل إلى اتفاق لإنهائها، فأخذ بوش زمام الأمور شخصياً. تروي رايس أنه في اليوم التالي كتب وثيقة بخط يده قال فيها: «إن لدينا الكثير على المحك لنسمح باستمرار الحرب، بما فيه موقعنا في العراق، ورغبته في الدفع نحو دولة فلسطينية»، إضافة إلى «عدم التخلي عن قوى الديمقراطية ووطأة قدمهم في لبنان، وأن نحافظ على أجندة الحرية»، التي كانت أهم برنامج له.
بعد موقف بوش هذا ووصول الرسالة لإسرائيل استطاعت رايس أن تحصلَ على موافقة إسرائيل على آخر العقبات التي كانت تحول دون التوصل إلى وقف النار، وجرى الاتفاق على بنود القرار 1701، الذي أنهى الحرب، وزاد عديدَ قوات الطوارئ، وأدخل الجيشَ اللبناني إلى الجنوب.
لماذا إذن – يتساءل خبراء الشرق الأوسط – لم يضغط الرئيس بايدن على إسرائيل ويفرض عليها ثمناً لما قامت به على مدى 9 أشهر ولم يغير سياسته، رغم كل ما حدث؟ اختلافه عن الرئيسين المذكورين هو أنَّ موقفه من إسرائيل آيديولوجي وليس سياسياً فقط. يقول أرون ميللر الذي عمل على عملية السلام مدة سنوات في وزارة الخارجية، إنَّ بايدن «لديه التزام عاطفيٌّ بالغٌ لفكرة إسرائيل وشعبها».
والسببُ الآخر هو الكونغرس الذي يرفض فرضَ أي عقوبةٍ على إسرائيل ويتحدَّى الرئيس. أمَّا السببُ الأخير والأهم فهو حملته الانتخابية، وإيمانه بأنَّ وقوفَه ضد تصرفات إسرائيل ستكلفه الانتخابات. هذه أمور ربَّما لن تتغيَّر قريباً، وكذلك الوضع الحالي، وتستمر مأساة غزة وربَّما يضاف إليها لبنان.