على أنقاض المساجد المدمرة بفعل القصف، تنطلق تكبيرات العيد مدوية من حناجر أهل غزة، تنساب بين البنايات المهدمة كضوء فجر لا يعرف الاستسلام.
في هذا المشهد، يجد الأطفال ألعابهم من بقايا الأغراض الملقاة، يصنعون الأراجيح بأيديهم البريئة ويربطون حبائلها بين أعمدة المنازل، ويرقصون بين الأنقاض؛ كأنهم يعلنون أن الفرح لا ينحني، الأمهات تصنع “كحك” العيد بحب لا يعرف الحدود، يوزعن الحلوى على الأطفال بابتسامات تنير وجوههم المتعبة، العائلات المتبقية تتزاور، يشد بعضهم أزر بعض، يتقاسمون الحزن والفرح في آن واحد، الشباب يقولون لمن فقدوا أبناءهم “نحن أبناؤكم”، والآباء والأمهات يقولون لمن فقدوا عوائلهم “نحن آباؤكم وأمهاتكم”. وفي كل زاوية وعلى كل شفة، تسمع همسات التحدي والإيمان: “الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً”.
إنهم الذين فرحوا فرحة غامرة في عيد الفطر قبل أشهر، وأقاموا شعائرهم وصنعوا الفوانيس في رمضان، يجوبون الشوارع الخربة كأن الحرب لم تكن، كأنهم يوجهون رسالة للمحتل الذي وقفت معه أعتى أسلحة العالم وأكبر قوى الوحشية على مدار التاريخ: لن تهزم عزائمنا ولن نتخلى عن وطننا، كما عرفناه ونعرفه، وكما ستعرفه أجيال تأتي من بعدنا، هذه هي غزة الأبية، التي أرسلت أعظم الرسائل للكون كله، وبددت شائعات مغرضة بأن أبناء فلسطين باعوا أوطانهم!!
فهل من يبيع وطنه يتمسك به إلى هذا الحد؟ جرذان الحرب الذين لا وطن لهم يتكالبون، لكن ضحكة أطفال غزة اليتامى تظل تقول للمحتل: مهما فعلت، فإنك لا تساوي ذرة من تراب هذا الوطن الأبي.
يفرح أبناء غزة اليوم في العيد وهم موقنون بأن الصبح قريب، ويكادون يرون شعاعه الناصع يفجر الأماكن ويشرح صدورهم بالأمل، في تلك اللحظات المباركة، يتعالى ضحك الأطفال وتغمر الفرحة وجوه الكبار، رغم كل ما مروا به من مصاعب وتحديات، فهم يدركون أن الاحتلال يعيش مأزقًا تاريخيًا كبيرًا، ربما أكبر من أي مأساة سابقة؛ فقد احترقت جميع الأكاذيب، وانكشف الوجه القبيح الذي كان مخبأً خلف مسرحية الاضطهاد.
اليوم، يعرف العالم بأسره، صغارًا وكبارًا، أطفالًا ونساءً ورجالًا، حقيقة إسرائيل المزعومة وأمريكا الداعية للسلام في العلن ومجرمة الحرب في الخفاء، باتت الأرض في شتى البقاع تهتف بصوت واحد: الحرية لفلسطين، وترتفع الأعلام الفلسطينية عاليةً، متجاوزة البحار والأنهار والمحيطات، وصار الشال الفلسطيني رمزًا يُعلّق على كل كتف.
وفي المقابل، يعيش المحتل حالة من الوهم متشبثًا بالسلاح، معتقدًا أنه القوة الوحيدة في الساحة، لكن الحقيقة هي أن قوته خائرة، مرفوضة ومطرودة، مستوطنوه لا يهنأون بليلة هادئة؛ لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن الوطن الذي اغتصبوه ليس وطنهم، وأنهم عاجلًا أو آجلًا، لن يكونوا هنا، تنتظرهم نهاية حتمية، بينما يواصل أبناء غزة مسيرتهم بثبات، يزرعون الأمل في كل زاوية وينتظرون فجر الحرية الآتي عن قريب لا محالة.
إنها غزة الأبية وأهلها الكرام، الذين يستقبلون عيد الأضحى بفرحة المنتصر رغم كل الجراح وكل الفقد؛ ففي كل بيت، تتعالى التكبيرات وتمتزج بالضحكات، وتزدان الشوارع بألوان الفرح والصمود، هم من علمونا كيف يكون الصبر، وكيف يكون الإيمان بنصر الله ووعده الذي لا يتخلف، نحن معهم نؤازرهم ونشد من أزرهم، نرفع أكف الدعاء بقلوب ملؤها الإيمان واليقين بأن نصر الله آتٍ لا محالة.
في تلك اللحظات، نقول جميعًا: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا؛ فرغم كل ما يعانيه أهل غزة من حصار وآلام، يبقى الأمل في نفوسهم ويستمرون في زرع البسمة على وجوه أطفالهم، مؤمنين بأن الفرج قريب، وأن يوم العيد هو يوم انتصار وعزة.