بينما تعاني المملكة المتحدة من أزمة لا نهاية لها، بدأت مع تصويتها على الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل ثمانية أعوام، يبدو أن فرنسا توشك على الغرق في أزمتها الخاصة.
تعني الانتخابات البرلمانية المبكرة التي تلوح في الأفق، أن فرنسا تواجه مزيجاً لم تختبره من قبل، يتمثل في الجمع بين رئيس يناصر الاندماج الأوروبي في طريقه إلى الخروج من السلطة، وحكومة ذات نزعة قومية يمينية متشددة في طريقها إلى الصعود.
ينبغي قطعاً أن نتعامل مع استطلاعات الرأي ببعض الحذر، كما أن الخروج من منطقة اليورو ليس مطروحاً على الطاولة، وكذلك سيستمر إيمانويل ماكرون رئيساً للدولة. ومع ذلك، لا يبدو أن حزباً سياسياً سيفوز منفرداً بأغلبية مطلقة، مما يهدد البلاد بالفوضى مع استمرار تفكك القوى السياسية الفرنسية، إذ يتصارع الجمهوريون من يمين الوسط في ما بينهم صراعاً مريراً حول مسألة التحالف مع مارين لوبان. كما يعاني اليسار من الانقسام. أما حزب ماكرون، الذي كان يوماً على رأس المستفيدين من نظام صُمم لاستبعاد المتطرفين، فهو يتهيأ الآن لاحتلال المركز الثالث.
مرشحة يجب أن تُهزم
يتطلع الجميع إلى الانتخابات الرئاسية في عام 2027، غير أن لوبان، خلافاً لانتخابات عام 2017، ستكون المرشحة التي يجب أن تُهزم.
دعا ماكرون الناخبين يوم الأربعاء إلى تجنب “حمى المتطرفين”، وبدا كأنه يطمئن أسواق المال التي تعاني من الاضطراب بتأكيده على أنه سيبقى في منصبه حتى نهاية فترة رئاسته.
غير أن النخبة الفرنسية قد استيقظت متأخرة بعد أعوام من المشي أثناء نومها، وربما ساعدها في ذلك ما تبقى من إجراءات التحفيز المالي القوي من عهد الجائحة، والاعتقاد الذي لا يُقاوم بأن “هذا لا يمكن أن يحدث هنا”، فعلى أي حال، جعلت الفوضى الحقيقية التي نتجت عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ترويج نزعة التشكيك تجاه اليورو عملية صعبة.
لخص أكيلينو موريل، مستشار الرئيس السابق فرانسوا هولاند، هذه الحالة من الهدوء واللامبالاة بمثل “الأعمى يقود الأعمى”، ملاحظاً أن حزب لوبان أصبح الآن حزباً “جامعاً” يجذب الشباب والكبار، والميسورين ومن فاتهم قطار الحظ، وسط عجز أحزاب المؤسسة الرسمية أو عدم استعدادها للاستجابة لحالة الغضب بسبب الهجرة والتضخم.
شجاعة ظاهرية في مؤتمر “يوروبليس”
كان الشعور بأن “هذه المرة مختلفة” واضحاً في مؤتمر مجموعة “يوروبليس” (Europlace) المالي السنوي في باريس يوم الثلاثاء، حيث استُدعي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مدى سنوات، باعتباره نعمة خلقت آلاف الوظائف في القطاع المالي والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المنتشرة في العاصمة.
حافظ المتحدثون على مظهر شجاع، مشيرين إلى إجراءات قادمة لتحسين القدرة التنافسية الفرنسية، وإلى وعد باتحاد أسواق رأس المال الأوروبية لجذب مزيد من الطروح العامة الأولية (ومنع شركة “توتال إنرجيز” العملاقة للطاقة من مغادرة البلاد).
ولكن على الهامش، كان التشاؤم واضحاً وملموساً. فأسواق المال تعاني من الضعف، مع ارتفاع عوائد بعض السندات الفرنسية عن عوائد ديون البرتغال، واحتمال أن تكون الحكومة القادمة أقل نجاحاً بكثير في معالجة ضعف معدلات النمو وإصلاح المالية العامة المنهكة.
ومع عجز الموازنة العامة الذي بلغ 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، توقعوا صراعات أشد عنفاً مع بروكسل بشأن ما فرضه الاتحاد الأوروبي من تخفيض للإنفاق. فبعد سنوات من الاستفادة بشكل غير مباشر من الفوضى التي تعاني منها المملكة المتحدة والركود الذي تعاني منه ألمانيا، ربما تعود فرنسا إلى سابق عهدها.
تزاوج الوسط واليمين المتطرف
ما هي أوجه التشابه التاريخية لما قد يحدث قريباً؟ لقد شهدت فرنسا تعايشاً من قبل، ولكنها لم تشهد ما يشبه الزواج بين ماكرون ولوبان (أو الشخصية الثانية بعدها في الحزب اليمني المتطرف جوردان بارديلا، التي تبلغ من العمر 28 عاماً).
على طرف آخر يقبع خطر مماثل لصدمة انتصار الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران في عام 1981، الذي شهد تحمل أسواق المال تكلفة كبيرة من أجل كسر محاولته لإعادة تشكيل الاقتصاد جذرياً وبتكلفة باهظة، ومن هنا يأتي شبح “لحظة ليز ترَس” التي تلوّح بها إدارة ماكرون.
لكن الاحتمال الأكبر هو أن يحدث شيء يتسبب في تآكل أعمق وطويل الأمد، على غرار تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع تورط قطاع الخدمة المدنية في معارك سياسية.
مارين لوبان ليست جيورجيا ميلوني
أي نوع من السياسة سيمثلها ماكرون على الساحة الأوروبية إذا تولى حزب لوبان إدارة الحكومة، على سبيل المثال؟
من الناحية التاريخية، كانت باريس على استعداد لتقديم تضحيات من أجل التكامل والاندماج الأوروبي، بداية من أزمة منطقة اليورو وحتى المشاريع الأخيرة لصفقات الاندماج الكبيرة الجديدة. ربما ولت تلك الأيام وانتهت.
يرى المتفائلون إمكانية الوصول إلى نوع من التوافق اليميني الجديد، مما يحوّل لوبان من الناحية الجوهرية إلى جيورجيا ميلوني جديدة، توازن بين ضرورة البقاء سياسياً والاستمرار على الجانب الجيد اقتصادياً عند بروكسل.
ربما يحدث ذلك، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن لوبان ليست ميلوني. فموقفها من الهجرة هو بالتأكيد على يمين ماكرون، ولكن سياساتها الاقتصادية كانت تاريخياً على يساره، مثل تأييد التقاعد في سن الستين وزيادة الأجور، مما يفسر كيف أنها ظلت الاختيار المفضل للناخبين من الطبقة العاملة.
إذا تعين على الأسواق المالية أن تظل حذرة، فذلك بسبب مزيج التقلبات السياسية والركود الاقتصادي من ذلك النمط الذي صاحب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي تجنبته فرنسا لفترة طويلة.
فبدلاً من الانتظار إلى ما بعد دورة الألعاب الأولمبية وانتشار تأثير خفض البنك المركزي الأوروبي لسعر الفائدة، اختار ماكرون عنصر المفاجأة بالانتخابات المبكرة. وقد تصدمنا النتيجة جميعاً.