أمضت روسيا وإيران العقدين الماضيين في تعزيز نفوذهما في المنطقة، غالبًا من خلال الاستفادة من الصراعات المحلّيّة. وكان هذا أكثر وضوحًا في سورية، حيث استغلّت كلّ منهما الحرب الأهليّة في البلاد لتأسيس موطئ قدّم لها، إذ وسّعت روسيا وجودها في سورية، وتدخّلت بعنف في الحرب منذ 2015، وأنشأت وجودًا دائمًا عبر إدخال فرق المشاة والبحريّة والدفاع الجوّيّ إلى أتون الحرب وجعلت مشاركة القوّات الروسيّة في إدارة الحرب أساسيّة، وصنعت جنرالات يديرون قطاعات أمنيّة وعسكريّة في عدّة مدن سورية أهمّها حمص، وطرطوس، واللاذقيّة، ودمشق. ونتيجة لهذا القرار الجريء والتدخّل السريع في سورية، حتّى عام 2024، بلغ عدد الجنود الروس الّذين جلبتهم موسكو إلى الأراضي السورية حوالي 63 ألف جنديّ روسيّ من المنتمين إلى سجلّات وزارة الدفاع الروسيّة، وما يقارب 20000 مقاتل يتبعون لمجموعات قتاليّة غير حكوميّة، أهمّها مجموعة فاغنر الّتي كان يرأسها يفغيني بريغوجين قبل أن يقتل بحادث تحطّم طائرة عام 2023. والآن تمتلك موسكو قاعدتين عسكريّتين في سورية: مطار حميميم في مدينة اللاذقيّة، والّتي تعتبر معقل إدارة العمليّات العسكريّة ونقطة اجتماع القادة الروس أثناء زياراتهم للاطّلاع على العمليّات في سورية، وميناء طرطوس البحريّ الّذي استأجرته موسكو من دمشق بعقد مدّته 49 عامًا، بدءًا من 2019 عن طريق شركة إس جي تي إنجينيرينغ، وفق عقد ظاهره تطوير ميناء طرطوس، وباطنه استملاك الميناء وتشغيله من قبل الأسطول البحريّ الروسيّ ليكون موطئ قدم على المياه الدافئة الّتي تسعى روسيا منذ أيّام الإمبراطوريّة إلى الوصول إليها. بالإضافة إلى ذلك زوّدت موسكو دمشق بأنظمة الدفاع الصاروخيّ الجوّيّ S-300 وS-400.، وهي أنظمة دفاعيّة بالمطلق، وتتحكّم روسيا بإطلاقها بحسب الضرورة، وتسيطر روسيا على المجال الجوّيّ في معظم أنحاء البلاد الّتي مزّقتها الحرب.
على عكس سرعة روسيا، كان لإيران حسابات وتخمينات حول دخولها الحرب في سورية، ما خلق تردّدًا في غرف صنع القرار حول الزجّ بالقوّات الإيرانيّة في الحرب ولصالح من سيكون هذا التدخّل ومن هي الفرق العسكريّة الّتي ستعمل على الأرض ولصالح من ستكون هذه العمليّات. في ذات المدّة تدخّلت إيران في سورية عبر وكلاء متمثّلين بفيلق القدس ولواء زينبيّون وفاطميّون وألوية النجباء وعتادها جميعها قوّات مشاة. هذه الحسابات كانت بسبب وقوع طهران بين دافع تأييد الحراك السوريّ، وعدّه ضمن حركات الربيع العربيّ كحركات تحرّريّة تناضل ضدّ الأنظمة المستبدّة والديكتاتوريّات العنيدة مثل نضال الإيرانيّين ضدّ الشاه؛ وبين دعم النظام الحليف والشريك في محور المقاومة في المنطقة ومنع سقوط جدار الردع أمام الاحتلال الإسرائيليّ. بنظر الرئاسة الإيرانيّة، فإنّ الدخول في أتون المعارك في سورية جاء من باب حفظ وحدة الشركاء في المنطقة والوكلاء مثل حزب اللّه وعدم تركه وحيدًا أمام إسرائيل في حال سقوط النظام الحاكم في سورية، والإبقاء على مكاسب إيران في المنطقة، لا سيّما بعد حرب العراق 2003. ينظر إلى إيران باعتبارها قوّة إقليميّة ناشئة تسعى إلى توسيع نفوذها وتأثيرها في المنطقة، وتعدّ نفسها العدوّ الأوّل والأوحد لإسرائيل ربيبة أوروبا والولايات المتّحدة والقوّة المنتجة للتكنولوجيا والأمن في المنطقة.
برّرت إيران دخولها الحرب في سورية بذريعة مواجهة إسرائيل، وعدم رغبتها في إتاحة المجال أمام تلّ أبيب للتوغّل ما بعد الجولان المحتلّ، والوصول إلى عمق دولة حليفة منذ قيام الثورة الإسلاميّة 1979، وكان من أساسات هذا التدخّل الدعم الماليّ والعسكريّ للجماعات الإسلاميّة العسكريّة المقاومة للاحتلال مثل حزب اللّه في لبنان، وامتدّ ليطال حماس في غزّة، وتطوير قدراتها الصاروخيّة، بما يخدم مصالحها في الانتشار والنفوذ وتعويض الخسائر بعد حرب الخليج التي فرضت عليها عزلة دوليّة وإفراز قوّة ردع في المنطقة عبر وكلاء. بالرغم من أنّ هذا الموقف المناهض لإسرائيل قد يبدو وكأنّه يخدم مصالح الشعب الإيرانيّ المحلّيّة، أو يهدف إلى تأجيج المشاعر المعادية لإسرائيل في المنطقة، إلّا أنّ إيران فعليًّا بالغت في تدخّلها ضدّ قوّات المعارضة السورية المسلّحة، ونسيت الذريعة الّتي دخلت بها الحرب، وتبعًا لتحوّل الموقف الشعبيّ الرافض لهذا التدخّل، أعادت طهران موضعة مواجهة إسرائيل على الأرض لكيلا تفقد القاعدة الشعبيّة بالمطلق. يمكن رؤية دليل على ذلك في الدعم اللوجستيّ الّذي تقدّمه إيران لحزب اللّه لينخرط بهذه الحرب منذ 2012، كما يمكن رؤية ذلك في دعم إيران لحركة حماس وخاصّة جناحها العسكريّ في فلسطين، ومباركة أيّ عمليّات عسكريّة ضدّ إسرائيل ولا سيّما في 7 أكتوبر 2023، وكذلك دعمها لحركة الجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّة واحتضان بعض قادتها في دمشق وتأمين الدعم اللوجستيّ والاستشاريّ بالتنسيق مع قادة فيلق القدس في سورية، بالإضافة إلى التحالفات الاستراتيجيّة الأخرى الّتي تهدف إلى مواجهة التهديدات الإسرائيليّة.
تشمل هذه التحالفات، بالطبع، التحالف المستمرّ منذ 40 عامًا مع سورية، حيث تعتمد إيران على استراتيجيّة الردع النشطة ضدّ إسرائيل. ووفقًا لوجهة النظر هذه، لا يمكن لطهران تجاهل الضغوط الإقليميّة ضدّ دمشق، خصوصًا بعد العقوبات الغربيّة وقانون قيصر وتعليق عضويّتها في جامعة الدول العربيّة؛ لأنّ إيران تنظر إلى نفسها كطرف مهدّد في النزاع السوريّ في حال سقطت دمشق في يد المعارضة السورية، السياسيّة والمسلّحة. وبالنتيجة كان لزامًا عليها الانخراط بشكل واسع في الحرب السورية، وإيجاد مخرج لعزلتها وعزلة دمشق.
منذ الانسحاب الأميركيّ من سورية في عام 2019، وحتّى اليوم، تدخّلت روسيا في الفراغ الأمنيّ والعسكريّ، ومكّنت الجيش السوريّ من استعادة السيطرة على شمال شرق البلاد، في محافظتي الرقّة والحسكة في إطار تحرّكات عسكريّة اتّخذها لمواجهة بداية العمليّات العسكريّة التركيّة الّتي أطلقتها يوم 9 أكتوبر 2019، تحت اسم عمليّة “نبع السلام” العسكريّة ضدّ وحدات حماية الشعب وقوّات سورية الديمقراطيّة الكرديّة، الّتي تعتبرها أنقرة ذراعًا لـحزب العمّال الكردستانيّ؛ واستفادت روسيا من عدم الاستقرار في سورية لترسيخ نفسها كضامن للأمن الإقليميّ بالتنسيق مع تركيّا وإيران وإلى حدّ ما مع دول الخليج عبر زيارات دبلوماسيّة لإقناعهم بالتوجّه نحو المعسكر الشرقيّ في ظلّ وجود مصالح مشتركة تتعلّق بالمنّ والطاقة والنقل العالميّ. إلّا أنّها تفاجأت بتصعيد عسكريّ وأمنيّ خطير بعد عمليّة طوفان الأقصى الّتي بدأت في 7 أكتوبر 2023، ووجدت أنّها ليست في وضع يسمح لها بجنّيّ فوائد مماثلة إذا تصاعدت الحرب الإسرائيليّة على غزّة، وكانت تلّ أبيب مصمّمة على دخول القطاع وتنفيذ إبادة جماعيّة بحقّ الفلسطينيّين؛ كون الملفّ الفلسطينيّ من الملفّات المعقّدة بالنسبة لحسابات العلاقة بين موسكو وتلّ أبيب، ويخضع لمساومات على ملفّات مهمّة منها أوكرانيا وإيران وسورية.
على الطرف المقابل، بعد أن رأت القوّات الإيرانيّة في الأرياف السورية ملاذًا آمنًا لقوّاتها، بدأت بالانتشار والتجنيد ودفع أموال المقاتلين مع الفصائل الشيعيّة في سورية، واستقطبت جنودًا من باكستان وأفغانستان تمركزوا في معضمية الشام وداريا كمعسكرات تدريب؛ وأصبح قوام القوّات المدعومة من إيران حوالي 65 ألف مقاتل منتشرين في عدّة مدن وبلدات سورية. رغم معارضة الولايات المتّحدة الأميركيّة وإسرائيل لهذا التوغّل الإيرانيّ الفظّ، سهّلت روسيا نسبيًّا عمل القوّات الوكيلة لإيران في سورية ومدّتها بالدعم اللوجستيّ والتغطية الجوّيّة في العديد من المعارك، لا سيّما في القنيطرة ودرعا ومعارك منطقة “مثلّث الموت” في الجنوب السوريّ، وفي القصير بريف حمص والقلمون في ريف دمشق الشماليّ الغربيّ وغيرها. ويأتي هذا الدعم ضمن إطار اتّفاقيّات التعاون العسكريّ المشترك بين طهران وموسكو ودمشق، والّتي تشمل تطويرًا للبنيّة الصاروخيّة وأنظمة الدفاع الجوّيّ وتطوير سلاسل توريد الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة بين البلدان الثلاث.
وجدت القوّات الإيرانيّة في الدعم الروسيّ متنفّسًا وراحة من ضغط العمليّات العسكريّة، لكنّه كان مؤقّتًا، حتّى بداية 2017. وبالنتيجة انتقلت إيران إلى التدخّل في علاقات أكثر دقّة على مستوى الحياة الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة في البلاد، لتبدأ روسيا بالقلق من هذا التوغّل لا سيّما، وأنّ خلافًا مبطّنًا بدأ يطفو بين القوّات الوكيلة المدعومة من الطرفين. وبشرح هذا الخلاف، نعود إلى الجماعات العسكريّة المدعومة من الطرفين، ليتّضح أنّ هذا الدعم انقسم إلى جانب حكوميّ، وآخر غير حكوميّ. تتمثّل القوّات الحكوميّة المدعومة من روسيا بالفيلق الخامس التابع لملّاك وزارة الدفاع السورية، والمموّل بشكل أو بآخر من موسكو بعد تسيير برنامج المصالحة الوطنيّة عام 2016، والّذي ضمّ مقاتلين من العسكريّين المنشقّين بدءًا من عام 2011، مع تسليم أسلحتهم وتسجيلها على قيدهم مجدّدًا لصالح الفيلق الخامس ومقرّه قاعدة حميميم ويشرف على تدريبهم ضبّاط روس؛ لتشمل عمليّاته مناطق ريف حماة ودرعًا وريف السويداء والغوطة الشرقيّة في ريف دمشق. اصطدم الفيلق الخامس بالفرق الرابعة، وهي الطرف العسكريّ الحكوميّ المدعوم من إيران سواء على مستوى التسليح أو الاستشارات أو إدارة العمليّات العسكريّة، ولا سيّما في درعا وشمال السويداء وريف دمشق الغربيّ وصولًا إلى القلمون وريف حمص الجنوبيّ بالتنسيق مع الفصائل الشيعيّة العاملة لصالح حزب اللّه في المنطقة المذكورة. نتج عن هذا الاصطدام عدّة اغتيالات للطرفين الأبرز كان في عام 2022 عبر تنفيذ تفجير بحافلة تقلّ 18 مقاتلًا من الفرقة الرابعة في منطقة الصبورة في ريف دمشق الغربيّ وتوجيه أصابع الاتّهام إلى قوّات تابعة للفيلق الخامس بهذه العمليّة. وفي درعا والسويداء فإنّ الخلافات على أشدّها بين الطرفين لا سيّما بعد ظهور شخصيّات محلّيّة تسلّمت دفّة العمليّات في المنطقة وأبرزها “أحمد العودة” المنسّق العسكريّ للفيلق الخامس في الجنوب السوريّ، وحصول مناوشات وحالات اختطاف واغتيالات جنود تابعين للفرقة الرابعة وشعبة الأمن السياسيّ على الحدود مع السويداء.
الجانب غير الحكوميّ هو الجانب الأكثر تعقيدًا، فروسيا تدعم قوّات فاغنر المنتشرة في عدّة مدن وأحياء في جنوب ووسط البلاد، وانخرطت في حرب المدن، ويحسب لقوّات فاغنر القتال في مدينة تدمّر السورية ضدّ مقاتلي تنظيم داعش، واستعادتها بعد معارك دامية استمرّت أشهرًا، وثبّتت القوّات الروسيّة قواعد موجودة إلى اليوم في المدينة. تعتمد هذه القوّات على جنود قدماء أفراد أمن وحراسة خاصّة وفق عقد إداريّ لمدّة ستّة أشهر قابلة للتجديد بحسب انتهاء العمليّات في المدن السورية. هذه القوّات لم يكن لها انتماء عقائديّ للمعركة في سورية، والهدف من المشاركة هو مادّيّ بحت يعتمد على أمرين أساسيّين: الأوّل هو المردود المادّيّ الّذي يبدأ ب 200 دولار وصولًا إلى 1500 دولار شهريًّا بحسب الكفاءة وقيادة المجموعة، والأمر الثاني هو إمكانيّة الاستفادة من غنائم المعركة سواء العسكريّة أو المادّيّة في إمكان العمليّات والاستفادة منها وتبييضها.
على الأرض، تصاعدت حدّة الخلافات بين الفصائل الوكيلة عن البلدين؛ ونتج عن هذا الخلاف سحب القوّات الإيرانيّة في مناطق القنيطرة وريف دمشق الغربيّ، ونشر قوّات روسيّة على عدد من الهضاب في بلدات مسحّرة وجبًا وبئر عجم، وهذه البلدات كانت تحت سيطرة المعارضة السورية المسلّحة بدءًا من عام 2013 حتّى عام 2016 بعد أن انضمّت هذه القوّات لبرنامج المصالحة الوطنيّة لصالح القتال مع الفيلق الخامس، ليرتفع عدد النقاط الروسيّة في تلك المنطقة إلى 14 نقطة مراقبة، وبالتّالي يمكنها هذا الوجود من ضبط النزاع وتخفيف التوتّر بين القوّات الشيعيّة أو الوكيلة لحزب اللّه وإيران في المثلّث الجنوبيّ الغربيّ لسورية والجيش الإسرائيليّ المنتشر على حدود الجولان السوريّ المحتلّ.
في المقابل تعمل القوّات الخاصّة الإيرانيّة من أمثال الويّة فاطميون وزينبيّون ولواء القدس الفلسطينيّ المكوّن من فلسطينيّين سوريّين اختاروا نهج التشيّع بالتنسيق مع مستشارين من فيلق القدس والحرس الثوريّ الإيرانيّ وفق نسق عقائديّ، ويميلون إلى الانتقام في العمليّات، ولاسيّما في السيطرة على مناطق ريف حمص المحاذية للحدود اللبنانيّة ومناطق القلمون في ريف دمشق ومناطق الغوطة الشرقيّة المحاذية لمنطقة السيّدة زينب. بعد عام 2020، بدأت تتمركز القوّات المدعومة من إيران في الجزء الجنوبيّ والجنوب الغربيّ من سورية، وفي محيط العاصمة دمشق مع الحفاظ على عدّة مكاتب قياديّة في العاصمة، لإدارة العمليّات والتنسيق مع مكتب أمن الفرقة الرابعة وحزب اللّه. لتعود أيضًا الخلافات مع القادة الروس المسؤولين عن قطاعات أمنيّة في دمشق وريفها، لتصبح رغبتهم أكبر في تحييد القوّات الإيرانيّة وبسط نفوذ روسيّ أكبر في المنطقة. على ما يبدو أنّ القوّات الإيرانيّة استنزفت في سورية، ولهذا يجري تجفيف منابعها سواء على مستوى الدعم اللوجستيّ والتمويل أو مستوى الدعم الاستشاريّ والإداريّ؛ ولهذا فإنّ روسيا استغلّت هذا الضعف والقرار الدوليّ بتطويق الوجود الإيرانيّ في المنطقة لصالح تطوير وجودها في سورية أكثر.
كان اغتيال القائد عماد مغنّية القيادي في حزب اللّه والعميد علي اللّه دادي من الحرس الثوريّ الإيرانيّ في سورية عام 2015 أوّل رسالة تحذيريّة لطهران بخصوص انتشارها في سورية، وتوالت الضربات حتّى 7 أكتوبر 2023، لتتسارع وتيرة اغتيال الضبّاط الإيرانيّين، ومنذ وقتها لم تمتنع إسرائيل عن تنفيذ ضربات نوعيّة وحاسمة بلغ عددها حوالي 79 ضربة ضدّ التجمّعات والأفراد التابعين لإيران في سورية دون أيّ تحرّك عسكريّ روسيّ أو سوريّ. ربّما يكون من غير المؤكّد وجود تنسيق روسيّ-إسرائيليّ حول الضربات المتتالية تجاه “الحليفة” إيران في سورية، لكن من المؤكّد وجود صمت مقصود وعدم تفاعل روسيّ تجاه هذه الضربات والاغتيالات والّتي كان آخرها اغتيال 7 مستشارين عسكريّين، من بينهم محمّد رضا زاهدي القائد الكبير في فيلق القدس في قصف على القنصليّة الإيرانيّة في دمشق. ولم تكن لهجة الروس حادّة بما فيه الكفاية في تحذيراتهم تلّ أبيب من الإقدام على تنفيذ هجمات على مصالح إيرانيّة في المنطقة، رغم إدانتهم الهجوم الإسرائيليّ على القنصليّة الإيرانيّة في دمشق، إذ إنّ من مصلحة روسيا واقعيًّا إبقاء الشرق الوسط مشتعلًا نسبيًّا لتوجيه الأنظار عن حربها مع أوكرانيا، وضمان موقع قوّاتها في سورية لحفظ التوازن.
وبعد ردّ طهران على تلّ أبيب في أبريل، اعتبرت موسكو أنّ هذا الردّ خطوة لحفظ ماء وجه طهران في المنطقة، مع عدم الحاجة إلى تصعيد. فعليًّا. لا تريد روسيا الانجرار نحو حرب شاملة في المنطقة ما يثير المخاوف حول سباق التسليح وملفّات الأسلحة النوويّة وملفّات اقتصاديّة وأمنيّة كبرى لصالح روسيا، ومن مصلحتها الإبقاء على حالة المناوشات هذه مع وجود كروت ضغط في حال تطوّرت الأحداث ودخلت الدول في حرب شاملة. ومن وجهة نظر أخرى، يمكن لروسيا أن تختبر النفس الإيرانيّ والمدى المجدي للأسلحة الحديثة والمسيرات الإيرانيّة واختبار تحديثاتها قبل شراء النسخ المطوّرة منها للاستفادة منها في حربها ضدّ كييف.
حتّى بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسيّ في مايو الماضي، وحدوث فرص لتفاهمات جديدة، فإنّ ملفّ سورية ونموذج العلاقة بين روسيا وإيران، على الأرض من الملفّات المهمّة الّتي تخوّل موسكو الحديث والتفاهم مع أيّ من القوى في المنطقة، بما فيها أميركا وتركيّا وحتّى إسرائيل، بالرغم من وصول العلاقات معها إلى مستويات متدنّية بعد الحرب على أوكرانيا؛ إلّا أن تسارع التسليح لدى إيران يسبّب قلقًا وجوديًّا لإسرائيل أكثر من أيّ الملفّات الأخرى. بالنسبة إلى موسكو، يبدو نجاح إيران بتطوير قوّة صاروخيّة وسلالة مسيرات حديثة أمرًا مطمئنًّا كورقة في المساومات مع تلّ أبيب كون الأخيرة تخشى من وصول الأسلحة الإيرانيّة إلى حزب اللّه والجماعات الشيعيّة المسلّحة في سورية ولبنان، لا سيّما بعد اختبارها في أوكرانيا من قبل الطرف الروسيّ، وإحداث خرق عسكريّ للقبّة الحديديّة في تلّ أبيب؛ وبالتّالي فإنّ تلّ أبيب ليس من مصلحتها أن تغضب موسكو إن أرادت أن تبقى طهران تحت السيطرة في المنطقة، ولكي تحمي أمنها القوميّ ومصالحها الاستراتيجيّة في المنطقة. أمّا بالنسبة لإيران، فإنّها بدأت تشعر بالنقص في سورية نتيجة تراجع الاهتمام الروسيّ بها، لتجدّد علاقاتها مع الصين كقوّة عظمى في الشرق، وتعزّز العلاقات العسكريّة مع شنغهاي، لا سيّما في مجالات الطاقة النوويّة والقدرات العسكريّة لجيشي كلا البلدين، مع تطوير القدرات الاستخباراتيّة وأنظمة الأمن السيبرانيّ. هذا التوجّه حقيقيّ لصالح إيران على مستويين: الأوّل الحفاظ على حليف استراتيجيّ (الصين) تلتقي معه أهداف معاداة العسكر الغربيّ وتثبيت قوّة غيران على خارطة كبريات القوى العالميّة؛ والثاني إعادة أنظار موسكو نحو الوجود الإيرانيّ في المنطقة وعرقلة محاولات التخلّي عنها كشريك في عدّة حروب قادتها روسيا في المنطقة، في حال أرادت روسيا حلّ الملفّ الأوكرانيّ مع الغرب وتقويض صداقتها مع إيران. ولهذا سارعت روسيا على لسان وزير الدفاع سيرغي شويغو إلى إعلان جهوزيّتها للتعاون مع إيران في المجالات الفنّيّة والتقنيّة العسكريّة.