لا تزال النتائج الأولية للانتخابات الأوروبية التي انتهت مساء الأحد تثير التساؤلات والدهشة في دول الاتحاد الأوروبي الـ27 وخارجها. وباعتبار أن الانتخابات الأوروبية محلية النكهة قبل كل شيء، فمئات الملايين من الناخبين الذين لم ينته فرز أصواتهم حتى ظهر الاثنين، أعربوا بوضوح بالغ عن اعتقادهم بوجوب تحول أنظمة الحكم في بلدانهم نحو اليمين.
وأثبت هذا اللون السياسي أنه أقوى مما توقعت استطلاعات الرأي التي دأبت في الأسابيع الأخيرة على التكهن بنجاحاته. وفصائله التي تردد أنها “ستهزّ القارب” وتُغيّر بعض الشيء في الأوضاع الراهنة، قد “قلبت القارب رأساً على عقب”، على حد تعبير معلق أوروبي. فاليمين أطاح حكومة بلجيكا في نهاية يوم انتخابي طويل، وألحق هزيمة مدوية بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حملته على الإعلان عن حلّ الجمعية الوطنية.
لكن لم يكن اليمينيون جميعاً مرتاحين للنتائج. تعزّزت مكانة جورجيا ميلوني، الزعيمة الإيطالية الشعبوية وقدرتها على “صناعة الملوك”، فنظيرها وحليفها المجري فيكتور أوربان الذي خال نفسه أنه لا يُقهر تلقى صفعة مؤلمة على يد معارضه بيتر ماغيار.
تصدرت ميلوني الرابحين. فهي نالت تأييداً بنسبة أكبر مما حظيت به في انتخابات 2022. وكانت مع نظيرها البولندي دونالد توسك الزعيمين الوحيدين اللذين خرجا ظافرين من الانتخابات التي استغرق إجراؤها أربعة أيام، ووصفت بأنها “27 عملية انتخابية” مختلفة. وربما كان إنجاز الزعيمة الإيطالية مشوباً ببعض الضيق، لأن صديقتها “اللدود” مارين لوبن سجلت في فرنسا انتصاراً ساحقاً على حزب ماكرون. وبدأ الجدل سلفاً بشأن أبرز دلالات هذا النصر، وهي وصول لوبن إلى قصر الإليزيه في انتخابات 2027 وآثاره المحتملة على القارة والعالم.
كما أن حليفة ميلوني المفترضة، أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية التي كثرت التكهنات بشأن حصولها على ولاية ثانية، صارت في وضع أقوى كثيراً. ويعود ذلك إلى نجاح ميلوني من جهة وفوز حزبها (الاتحاد الديموقراطي المسيحي) بالمركز الأول في انتخابات ألمانيا، إضافة إلى تفوق كتلتها “حزب الشعب الأوروبي” المحافظة صاحبة المرتبة الأولى في هذه الانتخابات، إذ فازت بـ9 نواب جدد ليصبح لديها 189 نائباً، وتبقى أكبر مجموعة برلمانية. وأصبح استمرار فون دير لاين على رأس المفوضية لخمس سنوات أخرى مرجحاً. وذكرت تقارير أن المباحثات بدأت سلفاً مع كتلتي الاشتراكيين والليبراليين بخصوص إمكان إحياء التحالف الثلاثي في البرلمان الذي ضمن لها في 2019 تسنّم هذا المركز. ومتوقع أن يبلغ مجموع نواب الكتل الثلاث 407 نواب، تحتاج فون دير لاين إلى أصوات 361 واحداً منهم حتى تظل صاحبة المنصب الأكثر أهمية في الاتحاد. وإن خذلها عدد من نواب الكتل الثلاث، فستهب ميلوني للتعويض على الأغلب.
بيد أن الفائز الحقيقي الأول في الانتخابات هو اليمين الشعبوي والمتطرف الذي حصد بشقيه “الإصلاحيون والمحافظون الأوروبيون” الذي تتزعمه ميلوني و”الهوية والديموقراطية” وأبرز قادتها لوبن، 13 مقعداً جديداً، 4 منها لفصيل ميلوني (72 نائباً) و9 لفصيل لوبن (58 نائباً). ولو اتحدا لصارا الكتلة الثالثة من حيث العدد في البرلمان. وجاء اليمين المتشدد أولاً في إيطاليا، وبلجيكا، وفرنسا حيث يتوقع فوز حزب إريك زيمور المتطرف بـ5 في المئة بنهاية فرز الأصوات، وفي النمسا، ورومانيا، والثاني في ألمانيا متقدماً على حزب المستشار أولاف شولتس. كما استطاع حزب الشعب المحافظ الإسباني الذي يصنف في يمين الوسط، أن يتفوق بنسبة ضئيلة على الحزب الاشتراكي بزعامة بيدرو سانشيز رئيس الوزراء.
أما الخاسرون ففي طليعتهم ماكرون وشولتس وألكساندر دي كرو، رئيس الوزراء البلجيكي الليبرالي الذي قدم استقالة حكومته لأنه لم يعد قادراً على تحقيق أغلبية برلمانية في الانتخابات العامة التي خسرها أمام حزب “التحالف الفلمنكي الجديد” اليميني، والعضو في كتلة ميلوني بالبرلمان الأوروبي. وهذا “التحالف” جاء في المرتبة الثانية في انتخابات البرلمان الأوروبي في بلجيكا، شأنه شأن حزب “فلامس بيلانغ” اليميني المتشدد الذي لم يكن أداؤه بمستوى التكهنات التي راجت قبل الانتخابات.
ولعل أبرز المهزومين هو أوربان، مع أن حزبه “فيديز” حصل على نسبة معتبرة من الأصوات بلغت 43.8 في المئة. لكن هذه كانت أسوأ حصيلة يخرج بها من الانتخابات الأوروبية التي خاضها مرات عدة. فقد حرمه ماغيار من ثلث حصته من الأصوات، مع أن هذا المعارض الذي فضح تغلغل الفساد في الطبقة الحاكمة، حديث العهد بالسياسة والانتخابات. وخسرت كل من كتل اليسار والاشتراكيين والمستقلين مقعداً أو اثنين. أما “رينيو” (التجديد)، بقيادة ماكرون، فقد فقدت 23 نائباً وبقي لها 79 نائباً، بينما هبط عدد نواب كتلة “الخضر” من 72 إلى 52 نائباً في البرلمان الجديد.
وتراجُع “الخضر” على هذا النحو الدراماتيكي نتيجة ارتفاع أسهم اليمين المتطرف يؤشر إلى أن الخطر يحدق بالسياسات الخضراء التي يهاجمها المتطرفون، بأنواعهم. ولا يستبعد أن يؤدي التحالف المفترض بين ميلوني وفون دير لاين إلى الإمعان بإضعاف “الصفقة الخضراء” التي تنظم برنامج تصفير الانبعاثات الكربونية في دول الاتحاد، ولا سيما أنها تخلت سلفاً عن بعض شروطها. وإذا رشحها زعماء الدول الـ27 لرئاسة المفوضية من جديد في 28 حزيران (يونيو) الجاري، لبقي عليها أن تتخطى العقبة الأكبر، وهي الفوز في تموز (يوليو) أو أيلول (سبتمبر) بـ361 صوتاً في البرلمان الجديد.
تَقدُّم كتلة “الإصلاحيون والمحافظون الأوروبيون” سيكون له أثره على توزيع حقائب المفوضية الأوروبية. ويعتقد أن التنافس سيكون على أشده على منصب مسؤول الخارجية والأمن والبيئة. وهذا يستحق وقفة خاصة كالآثار المحتملة لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على أوروبا، في ظل جنوحها نحو اليمين.