تضمن خطاب الرئيس السيسى بتكليف الدكتور مصطفى مدبولى بتشكيل حكومة جديدة أن تكون «من ذوى الكفاءات والخبرات والقدرات المتميزة».
من وجهة نظرى فإن مفهوم حكومة كفاءات لا يجب التعامل معه على أنه يعنى حكومة «تكنوقراطية»، أى تضم أصحاب الخبرات فى مجال معين، سواء كان معرفيًّا أو تقنيًّا، فالتجارب السابقة والظروف التى تمر بها مصر تتطلب توسيع مفهوم «الكفاءات» كى يتضمن ثلاثة معايير أساسية، ترتبط ببعضها البعض، وهى الكفاءة المعرفية، والكفاءة الإدارية، والكفاءة فى الاتصال.
الكفاءة المعرفية بمعنى الخبرة المتميزة فى مجال معين من السياسات العامة، (صحة، تعليم، ثقافة، اقتصاد.. إلخ)، تُعد أمرًا ضروريًّا، فالوزير فى النهاية يقود قطاعًا فنيًّا معينًا لابد أن يكون على دراية بجوانبه التخصصية، وأن يكون صاحب رؤية فى تطويره، ولا يعنى ذلك أن الوزير يجب أن يكون بالضرورة من أهل مهنة وزارته، ولكن من المهم أن يعرف تفاصيلها كسياسة عامة، وخاصة أن مصر قد تخلت منذ سنوات طويلة عن الوزير «السياسى» أو الحزبى، الذى يمكن أن يقود قطاعًا استنادًا لرؤيته السياسية، وأصبحت الغلبة للوزير «الفنى» أو صاحب الخبرة فى المجال.
ولكن التجارب السابقة أثبتت أن التفوق التكنوقراطى لا يكفى، ولابد أن يملك الوزير مهارات إدارية متميزة، فهو فى النهاية سيتولى قيادة مؤسسة تضم قطاعًا من الموظفين والبيروقراطية، ودون القدرة على قيادة وترويض هذه البيروقراطية، قد يجد الوزير نفسه أسيرًا لها، أو غارقًا فى دهاليزها، فكل وزارة بها جزء من البيروقراطية العميقة، التى تسعى للحفاظ على مصالحها المؤسسية والشخصية، ولا تتقبل التغيير بسهولة، ومن ثَمَّ فالكفاءة هنا تتطلب مهارات فى القيادة الإدارية، ولا تكفى الكفاءة الفنية أو التكنوقراطية فقط.
المعيار الثالث للكفاءة يرتبط بالمهارات الاتصالية، وهى مهارات سياسية وإعلامية، بمعنى قدرة المسؤول التنفيذى على الشرح والدفاع عن السياسات والمبادرات المرتبطة بوزارته سواء للرأى العام مباشرة، أو لممثليه فى البرلمان، (فى إطار المساءلة السياسية). والواقع أن بعض الوزراء عبر العقود السابقة قد جاء إلى وزارته دون أن تكون لديه هذه المهارة، أو اعتقد أن السياسات تشرح نفسها بنفسها، ولا تحتاج جهدًا إعلاميًّا منه، أو آثر السلامة وابتعد عن الحديث ظنًّا أن ذلك سوف يُبعده عن أخطاء قد يقع فيها عند الكلام، أو يحميه من تداعيات الجدل الإعلامى والسياسى.
غياب هذه المهارات الاتصالية، أو تبنى منطق «السلامة»، لا يصلح مع الظروف التى تمر بها مصر حاليًا، ويحول عضو الحكومة إلى مجرد موظف بدرجة وزير. وترتبط بذلك مراجعة تجربة المتحدثين بأسماء الوزارات أو الحكومة، من حيث المهارة، والقدرة على التفاعل الإيجابى مع الإعلام وليس مجرد إلقاء بيانات رسمية.
باختصار.. حكومة «الكفاءات» تتطلب توافر خليط الكفاءة الفنية والإدارية والاتصالية.
كفاءة الحكومة تتطلب أيضًا التفكير فى الإصلاح المؤسسى للهيكل البيروقراطى للوزارات المختلفة، فالوزير ومهما كانت كفاءته لن يستطيع بمفرده أن ينفذ رؤى التطوير، دون توافر قيادات أخرى من الدرجة العليا تعمل معه داخل الوزارة. والعديد من الدول المتقدمة تسعى لجذب أفضل العناصر للوظائف الحكومية، وخاصة العليا منها، إما من خلال اختبار خاص للتقدم لهذه الوظائف أو من خلال التعيين السياسى المؤقت. وهى أفكار جديرة بالدراسة.
كفاءة الحكومة ترتبط أيضًا بالإجابة عن سؤال مَن يفكر للحكومة، والوزير ومهما كانت كفاءته، سوف يستنفد جانبًا كبيرًا من وقته وجهده فى إدارة دولاب العمل اليومى للوزارة، والتعامل مع قضايا الحاضر وليس المستقبل. وكثير من دول العالم قامت بتطوير آليات للتعامل مع هذا التحدى، منها إنشاء مراكز للبحث والفكر سواء داخل الوزارة أو فى أغلب الأحوال خارجها، تقوم بتطوير السياسات العامة، كما تتيح مساحة لتوثيق والاستفادة من أصحاب الخبرات السابقة لتحقيق التراكم وعدم البدء مجددًا من نقطة الصفر، بالإضافة إلى جذب الباحثين الشباب من أصحاب الأفكار المبتكرة وغير التقليدية للعمل فى تطوير السياسات العامة، وتشجيع الجامعات أيضًا على تطوير هذا الحقل العلمى.
وأخيرًا، فإن كفاءة الحكومة تتطلب إتاحة الفرصة لمساءلتها سواء الإعلامية أو البرلمانية من خلال أدوات الرقابة المختلفة. والعديد من الدول تتيح للحكومة والمسؤول التنفيذى فترة مائة يوم تسمى فترة شهر العسل كى يفهم فيها الملفات ويحرك دولاب العمل، ثم تبدأ المساءلة بعد ذلك. والمساءلة هنا لا تعنى تصيد الأخطاء أو تعمد خلق حالة من السواد والكآبة فى المجتمع، ولكن تستهدف ضمان الشفافية، والحيلولة دون ترهل العمل الحكومى، وتسعى لتحقيق الأهداف، وتصحيح الأخطاء.
وختامًا، كل التمنيات بالتوفيق للحكومة الجديدة، والتقدم لمصر، والخير والسعادة للشعب المصري.