الحروب بالوكالة كرد روسي – إيراني على السياسة الأميركية
ستقود المراوحة المميتة في غزة وأوكرانيا إلى مشاهد جديدة في الإقليم والعالم، وإذا كان النهج الأميركي تجاه الشؤون المطروحة مكشوفاً في تبنيه الكامل لإسرائيل وسلوكها فإن علينا أن نتوقع جهداً إيرانياً وروسياً بالتضامن أو في شكل منفصل، للتأثير في الإدارة الأميركية عشية دخول الولايات المتحدة إلى معركتها الرئاسية، وفي الأثناء ستستمر المأساة في فلسطين ومحيطها، وتتواصل الحرب في أوكرانيا من دون تسويات، في صدامات يبدو حتى الآن ألا أفق لها
كان لافتاً للنظر تزامن طرح الرئيس الأميركي جو بايدن خطته “الإسرائيلية” للسلام في غزة مع إعلان التوجه الأميركي – الأوروبي السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الغربية في مهاجمة أهداف داخل روسيا.
واللافت في هذا التزامن ما يثيره من انطباعات حول حرص أميركي على خفض التوتر في الشرق الأوسط في مقابل رفع مستوى التوتر على الجبهة الروسية – الغربية، في عودة لمبادئ الإستراتيجية الأميركية التي تصنف روسيا تحدياً مركزياً إلى جانب الصين، ومعهما عضوا المحور المصنف معادياً، إيران وكوريا الشمالية.
وقد ينسجم هذا الانطباع مع الرؤية الأميركية للعلاقة مع الشرق الأوسط وقوامها دمج إسرائيل مع محيطها العربي واحتواء إيران، ولا يتناقض مع إستراتيجيتها في ردع روسيا والحفاظ على موقعها القطبي في السياسة العالمية، وهي رؤية تأخذ بعين الاعتبار في ترجمتها العملية، وقف النار في غزة والسماح لأوكرانيا بالرد في قلب روسيا، سير التنافس على السلطة في أميركا نفسها حيث تحتدم المعركة بين جمهوريين وديمقراطيين يمثلهما رمزان متناقضان في سلوكهما تجاه كثير من القضايا الدولية، بما فيها الشرق الأوسط وروسيا وأوكرانيا.
ويحتاج بايدن إلى استراحة تتيح له خوض معركته التي يقترب موعدها بسرعة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، كما يحتاج إلى إبقاء النار موقدة تحت الصراع التقليدي مع الشرق الروسي، وهو إذ اكتشف المراوحة القاتلة في غزة والتي تهدد بإطاحة كل مشروعه الشرق أوسطي، فإنه لاحظ مراوحة مماثلة في أوكرانيا تلوح بانكسار حليفه الرئيس فولوديمير زيلينسكي إذا لم تتوافر جرعة دعم تقيم له عنصر توازن قائم على الردع.
لكن في المكانين تواجه مشاريع بايدن صعوبات وتحديات يصعب تذليلها أو تخطيها، ففي أوكرانيا تحفّظ بايدن عن قصف قد تتعرض له موسكو أو الكرملين، لكنه هاجم الرئيس فلاديمير بوتين بقسوة عشية الاحتفال بذكرى إنزال قوات الحلفاء في “نورماندي” قبل 80 عاماً، وقال بايدن عن بوتين إنه “رجل غير محترم، إنه ديكتاتور يثير قلقي منذ 40 عاماً”، وهي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الرئيس الأميركي لنظيره الروسي، لكن بوتين يتجنب الرد الكلامي ويذهب إلى تدابير يعتبرها أكثر فاعلية.
دعا بوتين مجلس الأمن الدولي إلى اجتماع يبحث في الضوء الأخضر الغربي لأوكرانيا لاستهداف الأراضي الروسية، وواصل استخدام منبر المجلس إياه لعرقلة “المبادرة الأميركية” ومنع إقرارها في لعبة متواصلة يمارسها الطرفان، واتخذ في الوقت نفسه قراراً بدعم الحروب بالوكالة ضد الأميركيين وحلفائهم ضمن منطق “عدو عدوي هو صديقي”، في تبن صريح لنهج سبقته إليه إيران بأشواط.
إيران تتبع هذا النهج منذ أعوام طويلة، وهي بنت تجمعات وفصائل تابعة لها في أنحاء المشرق العربي واليمن توظفها اليوم في معركتها المعلنة لطرد “الأميركيين من غرب آسيا” وتكريس شراكتها في أمن المحيطات والمضائق الإستراتيجية من هرمز إلى المحيط الهندي والبحر الأحمر.
وفي السياق لا ترتاح إيران إلى أي مشروع تهدئة في غزة، وقادتها لم يبذلوا جهداً في مناقشة مبادرة بايدن الأخيرة، وقد حرص المرشد الإيراني بعد ساعات قليلة من إعلانها على دعوة الفلسطينيين إلى مواصلة القتال، وقال في ذكرى الخميني إن “على الشعب الفلسطيني أن يأخذ حقه بيده في الميدان وأن يواجه العدو ويجبره على التراجع”.
تخوض إيران حربها الخاصة ضد أميركا وإسرائيل بالجنود العرب والفلسطينيين، وهذا ما تتجه روسيا نحو القيام به ضد ما تعتبره دعماً أميركياً وغربياً لخصمها الأوكراني، ورداً على الإذن الأميركي بتوجيه ضربات أوكرانية داخل روسيا، أمر بوتين بتجهيز وكلاء لخوض الرد الروسي، وهؤلاء الوكلاء يتراوحون بين دول ومجموعات، والاستفادة من قدراتهم تعفي روسيا من خوض معارك مباشرة كما تفعل إيران، كما تعفيها من تكرار التهديد باللجوء إلى ضربات نووية محدودة.
يشرح العقيد الروسي في القوات الخاصة أناتولي ماتفيتشوك كيفية حصول الرد الروسي المفترض فيقول، “بالطبع لا يمكننا الآن ببساطة توجيه مدافعنا وصواريخنا والبدء بإطلاق النار على أهداف في بولندا أو رومانيا أو ألمانيا، ولكن يمكننا تنفيذ إجراءات بالوكالة”.
كيف ذلك؟ يستطرد العقيد الروسي في حديث إلى صحيفة ” موسكوفسكي كومسوموليتس” فيوضح أن “لدينا كثيراً من الحلفاء حول العالم يكرهون الولايات المتحدة والغرب، وبالدرجة الأولى في العراق وسوريا حيث توجد قواعد ومرافق عسكرية، ويمكننا تزويد الحوثيين بأنظمة صواريخ ساحلية مثل ’بال‘ أو ’باستيون‘ تمكنهم من ضرب البحرية الأميركية والبريطانية والأطلسية”.
لا تدخل المواجهة مع إسرائيل في الحسابات الروسية، لكن التقاء روسيا وإيران في التعويل على دور الحوثيين يكشف رهان الطرفين على الاستفادة المشتركة من هذه الميليشيات في الصدام مع واشنطن وليس لإنجاز معركة التحرير الفلسطينية أو نصرة القطاع، وستقود المراوحة المميتة في غزة وأوكرانيا إلى مشاهد جديدة في الإقليم والعالم، وإذا كان النهج الأميركي تجاه الشؤون المطروحة مكشوفاً في تبنيه الكامل لإسرائيل وسلوكها فإن علينا أن نتوقع جهداً إيرانياً وروسياً بالتضامن أو في شكل منفصل، للتأثير في الإدارة الأميركية عشية دخول الولايات المتحدة في معركتها الرئاسية، وفي الأثناء ستستمر المأساة في فلسطين ومحيطها وتتواصل الحرب في أوكرانيا من دون تسويات، في صدامات يبدو حتى الآن ألا أفق لها.