وقف حرب غزة وما بعدها
هناك دوافع عدة تجعل "حماس" تتجاوب مع فكرة التوصل إلى اتفاق، منها التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق بعد الضغط العسكري الإسرائيلي المكثف، وتخفيف معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال في القطاع.
تتسلط الأضواء بالنسبة لغزة الآن على الأفكار التي أعلنها الرئيس الأميركي جو بايدن، حول اتفاق ثلاثي المراحل للإفراج عن الرهائن والمحتجزين، ووقف إطلاق النار وإدخال الحاجات الإنسانية، وتمكين المهجرين قسرياً داخل القطاع من العودة مرة أخرى إلى أحيائهم، إلى أن تتم إعادة بناء البنية التحتية الإنسانية وتوفير السكن والمعيشة بعد أشهر عديدة من المعاناة.
لقد تجاوزنا مرحلة المماطلة واستمرار الأمر الواقع والسكوت على الوضع الراهن وأصبحنا في لحظة اتخاذ القرارات. بعضها استراتيجي والبعض الآخر تكتيكي وبغرض المناورة، لذا لن أتفاجأ بصدور إعلان بعدم توصل الأطراف إلى اتفاق وتحميل الأطراف الأخرى المسؤولية، أو إعلانهم عكس ذلك بموافقتهم على الاتفاق مرهوناً ومشروطاً بتفسيرات مختلفة.
وهناك ضغوط دولية وإقليمية ووطنية متعددة وشديدة للخروج من عنق الزجاجة الذي وصلت إليه المفاوضات، إزاء رفض الممارسات غير الإنسانية والقلق الحقيقي من أن تتصاعد الأمور في الجوار الفلسطيني بجنوب القطاع نحو مصر، وامتداداً للبنان وغير ذلك إقليمياً، وتضغط الولايات المتحدة خصوصاً مع اقتراب المراحل الحاسمة من الانتخابات الرئاسية التي قد تحسم بالنسبة إلى بايدن بحسب مواقف الأميركيين الذين لا يؤيدون مواقفه. بعضهم لتوتر علاقته نتنياهو وإسرائيل من جانب، أو ممن يرون أن دعمه لإسرائيل يسمح لها بتجاوز كل الحدود القانونية والإنسانية التي تفرض احترام بعض الاعتبارات الإنسانية.
وأعتقد أن إسرائيل و”حماس” لا تمانعان في التوصل إلى اتفاق لاعتبارات مختلفة أهمها الضغوط الداخلية للإفراج عن الرهائن بالنسبة لرئيس وزراء إسرائيل، والرغبة في كبح جماح التيار الليبرالي الغربي والدولي الرافض لممارساتها والمطالبة بمحاسبتها ومسؤوليها، وتنامي التأييد الدولي نحو الجانب الفلسطيني.
وهناك دوافع عدة تجعل “حماس” تتجاوب مع فكرة التوصل إلى اتفاق، منها التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق بعد الضغط العسكري الإسرائيلي المكثف، وتخفيف معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال في القطاع والاستفادة من جلب ثمار الغضب الدولي من الممارسات الإسرائيلية في القطاع، مما يدعم من مركز “حماس” بين الفلسطينيين.
وأتجنب دائماً وضع دولة الاحتلال وأي تيار سياسي فلسطيني مهما كانت توجهاته على مرتبة واحدة، لأن الاحتلال هو الخطيئة الكبرى وأساس المشكلة والنزاع، وهو ما أريد تأكيده هنا مرة أخرى بكل صراحة ووضوح.
وبصرف النظر عن المناورات والمواءمات السياسية يصعب تصور التزام الحكومة الإسرائيلية الحالية، أو أي حكومة يترأسها نتنياهو باتفاق ينهي النزاع في غزة، إذ يتبع ذلك مباشرة مرحلة تقييم ومحاسبة ومراجعة سياسية وقضائية، تفرض تغيرات في الشخصيات المواقف والسياسات والأيديولوجيات.
وأستبعد كذلك التزام قيادات “حماس” نصاً وروحاً ببنود اتفاق يشمل شروطاً ومطالبات أميركية وإسرائيلية، تقضي على نفوذها ووجودها في قطاع غزة والساحة الفلسطينية كاملة خصوصاً مع غياب توافق فلسطيني فلسطيني يوفر لها دوراً سياسياً آخر، ومع الموقف الإسرائيلي المعلن أنها تتعقب “حماس” وتقتل قياداتها داخل وخارج الأراضي الفلسطينية.
لذا إذا تمت الموافقة على اتفاق فيعكس ذلك أن إسرائيل و”حماس” يركزان في هذه المرحلة على تحسين صورتيهما دولياً وإقليمياً ووطنياً، بتحميل الطرف الآخر مسؤولية رفض الاقتراحات التي أشار إليها الرئيس الأميركي، مما دفع إسرائيل إلى تأكيد مواقف من الصعب على “حماس” قبولها، منها أن الحرب ستستمر حتى إذا توصل إلى اتفاق وأن الاقتراح الجديد لا يتضمن نصاً بانتهاء الحرب في أية مرحلة من مراحله، وفي مقابل ذلك تكرر “حماس” أنها لن تقبل أي اتفاق لا يتضمن إنهاء الحرب في غزة كلية وهو ما ترفضه إسرائيل.
وفي ضوء كل هذه الاعتبارات والمتناقضات أعتقد أننا أمام مفترق طرق، وعلى أبواب اتفاق لا تمانعه الأطراف الرئيسة المعنية وإنما لا تحبذه، ومن ثم يستبعد التزامها به جدياً وجوهرياً وبخاصة من جانب إسرائيل، وبين تصعيد كبير في قطاع غزة ومن حولها في جوار القطاع ولبنان.
ومع هذا ما زلت مؤيداً لمواصلة الجهد بدفع الأطراف نحو التوصل إلى اتفاق، باعتباره السبيل الوحيد لوقف القتل المبرح للشعب الفلسطيني المناضل والمكافح والبطل، ومحاولة لرفع معاناته الإنسانية مع العمل على أن يكون اتفاقاً شاملاً وتفصيلياً ودقيقاً، أو تتخذ خطوات إضافية سريعة لاستكماله.
ولن أعلق اليوم على مضمون ما نشر عن تصريحات الرئيس الأميركي حول بنود الاتفاق المقترح أو عناصره لأن النصوص المكتملة الأصلية لم تكن متوافرة لي عند صياغة هذه السطور، وقد علمتني مسيرة امتدت ما يقارب خمسة عقود من العمل السياسي والدبلوماسي عدم الاعتماد في التحليل على ما يصرح به أو ينشر.
وأكتفي هنا بالتنويه إلى أن أي اتفاق يتم التوصل إليه من الجهود الحالية أو المستقبلية يجب أن يشمل وقف إطلاق نار كاملاً ونهائياً وتبادل الأسرى والمحتجزين، وتوفير الحاجات الإنسانية وإعادة البناء والأمن والأمان للفلسطينيين وترتيبات أمنية على الحدود مع الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، ووضع كل ذلك في سياق سياسي يصل بنا إلى حل الدولتين فلسطين وإسرائيل.
ولذلك في حال التوصل إلى اتفاق أو حتى الإخفاق في ذلك أقترح إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يشمل التحرك على ثلاثة محاور…
أولاً، تبادل تدريجي للمخطوفين والمحتجزين ووقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية، مع تشكيل قوة دولية لتوفير الأمن والمراقبة داخل القطاع وعلى الحدود، وتكثيف المساعدات الغذائية والإنسانية.
وثانياً، وضع الدولة الفلسطينية على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية تحت جهاز الوصاية التابع للأمم المتحدة لمدة عامين، مع عدم المساس بالاعترافات التي حصلت عليها فلسطين دولياً ومسؤوليات السلطة وفقاً للاتفاقات السابقة مع إسرائيل.
وثالثاً، بدء عملية تفاوضية لمدة عامين نابعة من مجلس الأمن الدولي وتحت رعايته، للتوصل إلى حل على أساس دولتين وفقاً لحدود 1967 والقدس عاصمة للدولتين مع تقديم السكرتير العام والدول الخمس تقارير دورية عن سير المفاوضات.
وبهذه الخطوات نكون سجلنا وكملنا على أي اتفاق يتم التوصل اليه، أو وفرنا إطاراً جديداً للتعامل مع حرب غزة وما بعدها إذا تعثرت الجهود الجارية الآن.