يشير مفهوم “ديكتاتورية الأغلبية” إلى سيناريو تفرض فيه الأغلبية في النظام الديمقراطي إرادتها على حساب الأقليات، مما يقوض مبادئ المساواة والعدالة التي تهدف الديمقراطية إلى دعمها.ويقدم العراق، بمشهده الاجتماعي والسياسي الحالي نموذجا لدكتاتورية الاغلبية ، في مجتمع يسعى جاهداً من أجل الديمقراطية الحقة .في اغلب الدول الديموقراطية في العالم ، التي تتبنى دستور قائم على أسس حديثة ، يحظر فيها تشكيل أحزاب طائفية او فئوية تقسم المجتمع الواحد ولاتتمسك بالهوية الوطنية .
وأصبح المفهوم الحديث للديموقراطية أن تكون ليبرالية المضمون والمحتوى . بمعنى ضمان الحريات والحقوق العادلة للأفراد والاقليات او الجماعات المختلفة من استبداد الاغلبية . وهذا هو جوهر الديمقراطية الحديثة .كتب الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيورات ميل في كتابه عن الحرية أن هيمنة الاغلبية ستؤدي إلى اضطهاد مجموعات الأقليات الشبيه بما يمارسه الطاغية أو المستبد .
فتح سقوط النظام السابق في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 ، الباب أمام حقبة سياسية جديدة تفترض إقامة حكم شعبي ديمقراطي ، الا ان المشهد السياسي الجديد استند على أحزاب طائفية وفئوية تقسم المجتمع الواحد ولاتتمسك بالهوية الوطنية.
وفي ذلك مخالفة صريحة للدستور الذي نص على إنشاء جمهورية ديمقراطية فيدرالية، مع التأكيد على تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية والطائفية المتنوعة في العراق . حيث تم تصميم النظام الجديد لمنع أي مجموعة منفردة من السيطرة على المشهد السياسي . ومع ذلك، فقد انحرف الواقع عن هذه المُثُل المفترض.
وبرزت كتلة تفرض قراراتها عنوة على باقي اطياف الشعب، باعتبارها القوة السياسية المهيمنة. وتسببت في تهميش فئات فاعلة في المجتمع ، بالرغم من الآليات الدستورية التي تهدف إلى ضمان تمثيلهم مثل المجلس الاتحادي الذي تعمدت القوى الحاكمة في تغييبه حتى لا يلعب دوراً مهماً في إرساء الديموقراطية والحيلولة دون سطوة الأغلبية.
كما اصبحت مركزية اتخاذ القرار في أيدي الحكومات ذات الأغلبية البرلمانية قضية مثيرة للجدل . وقد أدت السياسات الطائفية لهذه الحكومات إلى تفاقم الانقسامات. خصوصا بعد إقصاء بعض الشخصيات السياسية وقمع كل اصوات المعارضة ، مما ساهم في خيبة الأمل على نطاق واسع .في الوضع السياسي الحالي في العراق نرى انعدام الثقة والشعور بالمظالم، مما جعل من الصعب تقاسم السلطة بشكل حقيقي.
كما لعبت الجهات الفاعلة الخارجية أدوارًا مهمة في تشكيل الحكومات على مدى العشرين عاما الماضية ، وكثيراً ما اتُهمت إيران، التي تتمتع بنفوذ كبير على الميليشيات والأحزاب السياسية المتنفذة، بتفاقم الانقسامات الطائفية من أجل مصالحها الاستراتيجية.
ان شمولية الاغلبية او دكتاتوريتها تعتبر من اخطر التحديات التي تواجه الدول والشعوب ، اذ بواسطتها صعدت انظمة فاشية ونازية كلفت شعوبها والعالم تكاليف باهضة .واذا مابقى العراق في مسار دكتاتورية الاغلبية الحالية ، فانه سيتحول سريعا الى دولة ثيوقراطية (دينية – طائفية) .ولتجنب ذلك لابد من معالجة هذه التحديات ، بما يحقق التطبيق السليم للديموقراطية . وهذا يتطلب نهجاً سليما متعدد الأوجه وخصوصا فيما يتعلق بالمحاور التالية :
الإصلاحات السياسية:
هناك حاجة إلى إصلاحات سياسية شاملة لضمان تقاسم حقيقي للسلطة ومنع تهميش أي مجموعة ، من خلال الالتزام بالمواد الدستورية ، مثل الاسراع في تشكيل المجلس الاتحادي ، والعمل على فك ارتباط الهيئات المستقلة من مجلس الوزراء والحاقها بالبرلمان ، كهيئة الاعلام والبنك المركزي والنزاهة وديوان الرقابة المالية وغيرها . مع إعادة النظر في النظام الانتخابي وتطبيق مبدأ فصل السلطات ، وعدم التدخل في شؤون القضاء والمحكمة الاتحادية، لضمان العدالة وخلق توزيع أكثر توازناً للسلطة.
بناء الثقة:
إن إعادة بناء الثقة بين فئات المجتمع العراقي أمر بالغ الأهمية. ولا يشمل ذلك نظام الحكم فحسب، بل ايضا تعزيز عمليات الحوار والمصالحة لمعالجة مظالم الماضي وتعزيز الوحدة الوطنية باستبدال التكتلات والخطابات الطائفية بالوطنية الجامعة .
تعزيز المؤسسات:
تعد المؤسسات القوية والمستقلة ضرورية لدعم سيادة القانون وحماية حقوق الأقليات. ويشمل ذلك حصر السلاح بيد الدولة ، واستئصال الميليشيات الحزبية وتعزيز قوى الامن الداخلي ، مع اتخاذ تدابير فاعلة لمكافحة الفساد ، وبناء ثقة الجمهور في الحكومة.
الدعم الدولي:
يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً داعماً من خلال توفير المساعدة الفنية، وتعزيز الحوار، وضمان عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية التي تؤدي غالبا إلى تفاقم الانقسامات الداخلية.
إن تحقيق ديمقراطية مستقرة وشاملة في العراق أمر محفوف بالتحديات، خصوصا في مواجهة “ديكتاتورية الأغلبية” التي يتصف بها المشهد السياسي الحالي، الأمر الذي يهدد التوازن الضروري لتحقيق السلام والتنمية. ومن خلال معالجة الأسباب الجذرية للانقسام وتعزيز نظام سياسي أكثر عدالة، يمكن للعراق أن يأمل في تجاوز واقعه المضطرب وبناء مستقبله حيث يكون لجميع مواطنيه مصلحة في نجاح هذا البلد العريق .