دولة الإحتلال

إيلان بابيه.. إسرائيلي يرفض الصهيونية

إيلان بابيه يرفض الصهيونية، ويدعو في كتاباته وعلى كل المنابر إلى قيام دولة واحدة في فلسطين على أنقاض الكيان الصهيوني، تضمّ الجميع.

شارك إيلان بابيه، المؤرّخ والكاتب والمفكّر الإسرائيلي اليهودي الرافض للصهيونية وكيانها الكولونيالي على أرض فلسطين، في منتدى الجزيرة الخامس عشر. ومع أنّ مواقفه معروفة، وشهرته لا تفارق ألسنة من يتحدّثون عن المشروع الصهيوني، وما يتمثل فيه من أخطار مرعبة على صعيد إقليمي وعالمي، فقد كان الجميع ينتظرون ما سيقوله بابيه في هذا المنتدى الذي انعقد تحت شعار “طوفان الأقصى والتحولات في الشرق الأوسط”.

إيلان بابيه يرفض الصهيونية، ويدعو في كتاباته وعلى كل المنابر إلى قيام دولة واحدة في فلسطين على أنقاض الكيان الصهيوني، تضمّ الجميع على اختلاف أعراقهم وأديانهم وأصولهم. وهو مؤرّخ منصف ممن يسمّون بالمؤرخين الجدد في إسرائيل، هاجر والداه وهما يهوديان ألمانيان، إلى فلسطين في الثلاثينيات من القرن الماضي.

وهو كذلك يرفض السردية الصهيونية الكاذبة السائدة في مجتمع وُلد فيه عام 1954، وترعرع وتعلم، ثم خدم في جيشه وتولى مناصب أكاديمية رفيعة في جامعاته، قبل أن ينقلب عليه أهله ويهددوه ويخرجوه؛ لأنه امتلك الشجاعة الأخلاقية والأدبية ليقول إن إسرائيل قامت على أنقاض فلسطين وفق خطة معدة مسبقًا للتطهير العرقي، وما تزال تُنَفَّذُ حتى اليوم.

وجدتني في الجلسة الافتتاحية للمنتدى أجلس بجانب بابيه، صافحته وأشدت بفكره ومواقفه، فهذه أول مرة ألتقيه، مع أني قرأت من كتبه واحدًا أو اثنين، على ما تسعفني الذاكرة، وخاصة كتابه الأشهر “التطهير العرقي في فلسطين”.

تناول بابيه في الجلسة الثانية في مداخلته الرئيسية الوضع الراهن بعد “طوفان الأقصى”، وخلَص إلى أن مرحلة تفكيك المشروع الصهيوني العنصري وصولًا إلى إقامة الدولة الواحدة، ستبدأ من اللحظة التي يبدأ العالم فيها بفرض عقوبات على إسرائيل، بصرف النظر عما قد يستغرقه ذلك من وقت.

ثم قال، وهو يتحدث عن المطلوب كي يستمر الزخم العالمي الراهن تأييدًا للحق الفلسطيني: ننتظر أن نسمع من الفلسطينيين حول مستقبل اليهود، [ ويقصد بذلك في مرحلة تفكيك المشروع الصهيوني وقيام الدولة الواحدة بديلًا].

ثم قال: يجب ألا ننتظر حتى يتم تفكيك المشروع الصهيوني الإجرامي وكيفية تحقيق ذلك، كما نبحث الآن، بل يجب التفكير في المستقبل الآن، وطرح البدائل والإجابة عن التساؤلات المختلفة، ولا ننتظر حتى ينهار ذلك المشروع انهيارًا؛ لأن نزع المشاريع الاستعمارية من دون بدائل مدروسة مسبقًا، أدّى في حالات سابقة إلى الفوضى.

وأضاف: فلسطين كانت بطبيعة الحال طيلة الوقت جزءًا من إقليم بلاد الشام، ويجب أن تعود كذلك في مرحلة ما بعد تفكيك المشروع الصهيوني، وعليه لا بدّ من إعادة النظر في الهياكل السياسية التي فرضت على المشرق العربي بعد الحرب العالميّة الأولى، والتفكير في بناء هياكل سياسية ذات صلة وثيقة بمنطقة المشرق، وحين يتم ذلك يصبح اليهود أقلية في المنطقة، وليس دولة قوية، كما هو الحال اليوم، ويصبح بإمكانهم الوجود هنا والمساهمة في حلّ مشاكل المنطقة.

ورغم ما يتلبّس تساؤل بابيه، المشوب بالقلق على ما يبدو، من حساسية لدى كل أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، ولا أقول الفلسطيني الإسرائيلي، فإني أجازف بطرحه، وغزة تقاوم ببسالة لم يعهدها الناس من قبل، رغم كل الدمار والقتل والخذلان. فالأولوية الآن، كما أعتقد يقينًا، هي لدعم المقاومة، ووقف جرائم الإبادة الجماعية، ومخططات التطهير العرقي، لكن دعونا نناقش تساؤل بابيه، حتى وإن لم يتبدَّ في الأفق البعيد ما يدلّ على أن تفكيك المشروع الصهيوني – كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وقيام الدولة الواحدة – أصبح قريبًا.

وقبل أن نمضي في النقاش مع بابيه لا بدّ أن يكون واضحًا أن عودة اللاجئين بأجيالهم المتعاقبة شرط أساسي لقيام تلك الدولة، ومن دونه لن يكون هناك تعايش ولا سلام حقيقي. وهكذا فإن من ينبغي أن يطرح الأسئلة هو نحن الفلسطينيين الذين قام المشروع الصهيوني على أرضهم وشردهم في الشتات، وما زلنا منذ مئة عام ويزيد، نقاوم وندفع من دمائنا، التي لولاها ما كان أحد يتحدّث عن نهاية لهذا المشروع، قريبة كانت أم بعيدة.

فإذا كنا سنعيش في دولة واحدة معًا، بعد تفكيك المشروع الصهيوني، فهل سيتخلّى “اليهود الإسرائيليون”، إن جازت لي التسمية، الذين يعيشون في الكيان الصهيوني، ويعتنقون الصهيونية فكرًا وسياسة، هل سيتخلون عنها، وهل سيقبلون العيش بحقوق متساوية مع كل الفلسطينيين الموجودين اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة ووراء الخط الأخضر، ومع اللاجئين العائدين من كل منافي الشتات بأجيالهم المتعاقبة؟ أم إنهم سيصرّون على علاقة بين قوميتين أو شعبين تُفَصَّلُ الحقوق لكل منهما على معايير واعتبارات مختلفة؟

قبل قيام المشروع الصهيوني، وقبل تدفّق المهاجرين اليهود من بقاع الدنيا بتدبير من بريطانيا الكولونيالية، كانت فلسطين وطنًا يعيش فيه العرب المسلمون والمسيحيون واليهود مواطنين يتساوون في الحقوق بصرف النظر عن الدين والعرق. وحتى قادة المشروع الأُوَل ، من أمثال غولدا مائير وشمعون بيريز، حملوا الجنسية الفلسطينية قبل قيام كيانهم. وكان هذا هو حال اليهود في كل البلدان العربية، ومنها إقليم بلاد الشام الذي يرى السيد بابيه أن فلسطين بعد تفكّك المشروع الصهيوني يجب أن تكون جزءًا منه كما كانت عبر تاريخها الطويل.

وإذا كانت حتميات التاريخ والجغرافيا تفرض هذا المآل لفلسطين في كل الأحوال، فلن يستقيم الحال إذا أراد من يختارون من اليهود البقاء بعد تفكيك المشروع الصهيونيّ، والإصرار في الوقت نفسه على اعتبار أنفسهم شعبًا له وضعيته وحقوقه الخاصة، يتعايش على الأرض نفسها مع شعب آخر، هم الفلسطينيون، بوضعيّة وحقوق خاصة ومنقوصة.

لن يستقيم الأمر هكذا إذا أردنا لفلسطين “الدولة الواحدة” أن تعود جزءًا أصيلًا من بلاد الشام. فهل ستتقبل الأجيال اليهودية المتعاقبة من نسل المهاجرين الأشكيناز أن تندمج مع ثقافة الإقليم، وتتعايش كأقلية مع حقائق الحياة الاجتماعية والدينية فيه، بعيدًا عما تشرّبته عبر العقود من أفكار وقناعات الحركة الصهيونية على اختلاف جماعاتها ومواقفها؟

أعلم أن من حق السيد بابيه أن يتساءل بقلق عن مصير اليهود بعد تفكيك المشروع الصهيوني، فهو واحد منهم تبرأ من الصهيونية، ويطالب ويدعو لتفكيك مشروعها، ومثله آخرون أيضًا. وما من شك لديَّ في أن السيد بابيه وهو المؤرخ المنصف، يعرف معرفة علمية وحقيقية أن اليهود كانوا منذ آلاف السنين يعيشون مع العرب، ويتعايشون مع مجتمعاتهم قبل الإسلام وبعده، يتاجرون ويزرعون ويبنون حصونهم، ويقرضون شِعْرهم، ويمارسون طقوسهم وشعائرهم، باعتبارهم جزءًا من الأمة.

وهكذا عاملهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة وهو يقيم الدولة، وهكذا عوملوا في الخلافات اللاحقة. بل حين طُرِدوا مع العرب المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة، وجدوا بين مسلمي شمال أفريقيا في المغرب من يحتضنهم وما زال.

وهكذا، فنحن ننتظر من اليهود الذين سيختارون البقاء في “الدولة الواحدة” أن يجيبوا عن تلك الأسئلة حتى يستطيع الجميع الاطمئنان للمستقبل. يجب أن يكون واضحًا أن تلك الدولة لن تقوم، والمشروع الصهيوني لن يتفكّك ما لم يصبح حق العودة واقعًا قبل كل شيء.

كنت ذات يوم أصوّر فيلمًا وثائقيًا عن القدس ومرّت الكاميرا بالشطر الغربي من المدينة، تصوّر أحياءها وبيوتها الجميلة المبنية قبل نكبة 48 بسنين طويلة. كتب من بنى واحدًا من البيوت الفخمة على ناصيته فوق الباب الحديدي 1927، وهو تاريخ البناء.

البيت تسكنه اليوم أسرة يهودية، وقد رأيت رجلًا مسنًا، هو ربّ الأسرة على ما يبدو، يصعد السُّلم إلى الطابق العلوي، وتراءى لي من سحنته أنه من اليهود الغربيين الأشكيناز.

تساءلت في نفسي، والمصور يلتقط الصور: ترى هل يقبل ذلك المسن يومًا أن يخرج من البيت فيعود البيت لمن بنوه، إن، وحين يتفكك المشروع الصهيوني العنصري بلا حرب، وتقوم الدولة الواحدة التي ينادي بها إيلان بابيه، ولا أرفضها أنا الذي وُلد مع النكبة، وما زال يتجرّع مراراتها في فلسطين وفي المنافي؟

قد يقول قائل لكل حادث حديث، ولا ينبغي أن نستبق الزمن، ونضع العربة أمام الحصان قبل أن يتفكك المشروع الصهيوني، لكن لست أنا الذي وُلد في قرية لا تبعد عن “فلسطين 48” إلا عشرين كيلو مترًا، أو أقلّ، ولم يرَها ولم يرَ مياه البحر المتوسط إلا بعد 1967، لست أنا من ينبغي أن يجيب عن السؤال أولًا، بل هو ساكن ذلك البيت والكيان الذي مَلَّكه البيت.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى