أوروبا.. وقصة أزمتين!
استهجنت أطراف الاتحاد الأوروبي بشدة هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأعربت بدرجات متفاوتة عن تأييدها "حق" إسرائيل المزعوم بالدفاع عن النفس، وعندما بدأت آلة الحرب الإسرائيلية تحصد أرواح الأبرياء، لم تكن هناك إدانات مماثلة للقتلة
“نحن الأوروبيين يجب أن نشعر بالعار (…) إننا من خلق المشكلة” في فلسطين، قال يانيس، وزير المالية اليوناني الأسبق في تعليق نادراً ما يتردد مثله، على الحرب التي أشعل “طوفان الأقصى” شرارتها. وذكّر بأن القارة أرادت التخلص من “مشكلتها” اليهودية، فقررت أوائل القرن الماضي حلها على حساب الفلسطينيين ومنطقة الشرق الأوسط حين ألقت باليهود هناك لتكفر عن المذابح التي ارتكبتها ضدهم!
انسجاماً مع هذا “التعاطف” التاريخي، استهجنت أطراف الاتحاد الأوروبي بشدة هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأعربت بدرجات متفاوتة عن تأييدها “حق” إسرائيل المزعوم بالدفاع عن النفس، وعندما بدأت آلة الحرب الإسرائيلية تحصد أرواح الأبرياء، لم تكن هناك إدانات مماثلة للقتلة. أشاحت بروكسل بوجهها عما كان يجري في غزة، ثم أخذت تصدر تصريحات لا قيمة عملية لها، لا بل كثيراً ما تناقضت مع الواقع. هذا ما حصل بشأن السلاح الذي زعمت دول منها هولندا وإيطاليا أنها كفت عن تصديره إلى تل أبيب بعد اندلاع الحرب، لكن سرعان ما كشفت تقارير صحافية أنه كان وربما لا يزال مستمراً.
هكذا، لم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئاً لحماية غزة وأهلها. ومن غير الممكن مقارنة هذا “اللا موقف” الذي اتخذه من الفظائع التي شهدها القطاع، مع اندفاعه إلى نصرة أوكرانيا على نحو يكاد يورط دوله في حرب نووية ضد موسكو. المفارقة أن ضميره ثار في مواجهة جرائم ولم يكترث لأخرى كانت أكثر وحشية بسبب استهداف الأطفال والنساء الغزاويين على امتداد أشهر عن سابق عمد وإصرار!
معلوم أن غزو أوكرانيا غيّر وجه القارة إلى الأبد، وأحدث تعديلات عميقة بنيوية على برامجها الاقتصادية وخططها الدفاعية وسياساتها الأمنية. كما أثر في استقرار مجتمعاتها، حيث تتنامى المعارضة لرصد مبالغ طائلة لأوكرانيا واستقبال لاجئيها بحفاوة بالغة أين منها أسلوب التعاطي المزري مع وافدين من دول آسيا وأفريقيا. وأوكرانيا مرشحة للانضمام للاتحاد الذي تعتقد بعض دوله أنها ستكون هدفاً لموسكو إذا انتصرت على كييف. لكن هل يبرر هذا كله الكيل المفضوح بمكيالين؟!
يتقاعس الاتحاد الأوروبي عن التزام مبدأ “احترام الكرامة الإنسانية والقانون الدولي” بما يتعلق بغزة، في الوقت الذي يدّعي أن هذا المبدأ هو أساس سياساته في أوكرانيا. وهذا يعرضه لتهمة تبني معايير مزدوجة.
انحيازه إلى إسرائيل يشوه صورته ويُضعف قوته الناعمة كلاعب مهم له تأثير يتخطى حدود القارة. فقد صار في عيون الكثير من دول الجنوب مفلساً أخلاقياً ولا يستحق الثقة باعتباره لا يلتزم القيم التي يقدم المواعظ حولها للآخرين. وهو يغامر بالتفريط بمصالحه في منطقة الشرق الأوسط التي قد تغرق شواطئه بالهاربين من الموت إذا اتسع نطاق الحرب فيها.
لا تسيء “المعايير المزدوجة” إلى الاتحاد، بل تطاول قادته. أورسولا فون دير لاين مثلاً، لا تتصرف كزعيمة أبرز مؤسسة أوروبية يجدر بها أن تتخذ موقفاً متوازناً، بل كسياسية ألمانية تعمل بوحي إحساسها بذنب تاريخي حيال اليهود ضحايا المحرقة النازية، وهو الشعور نفسه الذي يجعل من ألمانيا متحمسة لدعم حرب الإبادة أكثر من أي دولة أخرى ربما. وهذا ليس جديداً عليها. أحبطت قبل سنتين محاولة جوزيب بوريل ممثل الاتحاد الأعلى لشؤون الخارجية والأمن معاقبة بنيامين نتنياهو حينما حاول ضم الضفة الغربية المحتلة. وأكدت لموظفيها منذ اللحظة الأولى “الحاجة لتقديم الاتحاد الأوروبي دعماً كاملاً لا لبس فيه لإسرائيل”. كما دافعت عن احتلال إسرائيل غير المشروع لغزة بالإصرار ذاته الذي شجبت فيه الاحتلال الروسي لأراض أوكرانية حينما ساوت بين “الضحيتين” أوكرانيا وإسرائيل، مؤكدة “علينا أن نحمي [هاتين] الديموقراطيتين]”. وتجاهلت الدور الجوهري للاحتلال في هجمات “طوفان الأقصى” وكثير غيرها.
لا شك في أن اعتراف إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنروج بدولة فلسطين موقف تاريخي يستحق الترحيب. أما بقية الدول الـ27 فتبقى منقسمة بين مؤيدة لإسرائيل، ظالمة أو مظلومة، ومنها ألمانيا والتشيك والنمسا وهنغاريا، وبين دول منها فرنسا وإيطاليا وهولندا التي تحتج أحياناً بخجل على تمادي إسرائيل، وتقترب في أحيان أخرى من موقف عتاة مؤيدي تل أبيب. أما مؤسسات الاتحاد، فالمجلس الأوروبي المؤلف من زعماء الدول الأعضاء عبّر عن التشرذم والعجز عن اتخاذ موقف ذي معنى. والبرلمان الذي لا يستطيع أعضاؤه اقتراح مشاريع قوانين، بل يقتصر دورهم على التصويت عليها وتعديلها، لم يدعُ إلى وقف إطلاق النار إلا بعد 4 أشهر من بدء حرب الإبادة وضغوط كبيرة من نواب يساريين.
طالبت محكمة العدل الدولية إسرائيل في 24 أيار (مايو) بوقف عدوانها على رفح، لكن نتنياهو غير مستعد لاحترام القانون الدولي. لم يتخذ الاتحاد قراراً حول هذا. وفشل وزير الخارجية الأيرلندي مايكل مارتن في فرض عقوبات على تل أبيب أو حتى بعقد اجتماع لمجلس الشراكة الأوروبية – الإسرائيلية للضغط عليها.
في المحصلة، فون دير لاين ليست الاتحاد الأوروبي. هناك شجعان مثل جوسيب بوريل، والعديد من نواب البرلمان ممن يحترمون القيم الأوروبية والإنسانية. وبين المسؤولين، تبرز نائبة رئيس الوزراء الإسباني يولاندا دياز، التي تندد بنظام الفصل العنصري في إسرائيل وتدعو إلى التصدي لانتهاكاته.
لكن كيف ينجح هؤلاء الشرفاء في محاسبة إسرائيل ما دامت هناك دول نافذة تدعمها، رغم أن ذلك يذهب عكس رغبة مواطنيها؟ مثلاً ألمانيا وهولندا لا تخالفان مبادئ القانون الدولي فحسب بدعم حرب الإبادة الإسرائيلية، بل تضربان عرض الحائط برغبة الغالبية من أبنائهما (61 في المئة من الألمان و55 في المئة من الهولنديين) التي تطالب بوقف فوري لإطلاق النار.
هناك جرعة من السخرية في ادعاء دول أوروبية كهاتين، تأييد الديموقراطية بدعمهم سلطات الاحتلال والإبادة، وصمّ آذانها عن رغبات شعوبها التي تحثها على الذهاب في الوجهة المعاكسة!