هل يتمكن الشباب الفرنسي من تجديد الطبقة السياسية في المجتمع؟
يعتبر ماكرون مسؤولاً إلى حد كبير عن تعزيز مكانة الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا، وذلك من خلال تعميم خطابهم الشعبوي الاستبعادي وسياساته غير المنطقية تجاه المهاجرين، وهو ما دفعه لتشكيل ائتلاف برلماني مع حزب الجمهوريين في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.
سيتوجه الناخبون في الدول السبع والعشرين للاتحاد الأوروبي في الفترة الممتدة ما بين 6 و9 يونيو/حزيران الجاري إلى صناديق الاقتراع لانتخاب 720 نائباً لفترة تمتد لخمس سنوات، حيث يتم توزيع المقاعد وفقاً لعدد السكان. يُجرى الاقتراع في دورة واحدة وفق النظام الانتخابي النسبي، وتحتل ألمانيا المرتبة الأولى بواقع 96 نائباً، تليها فرنسا بواقع 81 نائباً في الدورة المقبلة. تُعد فرنسا البلد الثاني بعد ألمانيا من حيث عدد النواب المرسلين إلى مدينة ستراسبورغ الفرنسية، مقر البرلمان الأوروبي. وتتوزع القوائم الانتخابية على أطياف سياسية متعددة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مروراً بالوسط والخضر والمدافعين عن البيئة والحيوان. وقد أوكلت الأحزاب الرئيسية رئاسة قوائم المرشحين إلى الشباب، وبلغ عدد القوائم المعتمدة رسمياً 38 قائمة.
هل يعود هذا الاختيار الحزبي إلى رغبة الأحزاب في كسب أصوات الفئة الشابة، أم هو نتيجة حتمية لمطلب التغيير وتجديد الطبقة السياسية في المجتمع الفرنسي؟ لقد برز عنصر الشباب كعامل مهم في الحملة الانتخابية الأوروبية بشكل عام، حيث أظهر انخراطهم في الحراك الطلابي دعماً للقضية الفلسطينية في المعاهد والجامعات النخب مثل معهد العلوم السياسية وجامعة السوربون في باريس. أثبت هذا الانخراط أنه ليس مجرد نشاط طلابي شبابي أو مشاركة مدنية في العمل السياسي والنشاط النضالي الاحتجاجي، بل يعكس وعياً جمعياً بالقضايا العادلة في العالم وسعياً لدفع الأفكار والقيادات الجديدة. وبذلك، يُعد إشراك الشباب في لعب دور فعال في عملية صناعة القرار في فرنسا أمراً جوهرياً.
الظرف الزمني الملائم وثورة الشباب
تحت إدارة حزب النهضة، الذي يتبنى الليبرالية الاقتصادية في برنامجه الاقتصادي ونهج حكومته، يقود فرنسا الوزير الأول الشاب غابرييل آطال، البالغ من العمر 35 عاماً. في ضوء هذا المتغير، الذي يتمثل في عنصر الشباب، نجد أن غالبية الشباب منقسمون بين اليمين المتطرف الذي يدافع عن الهوية الوطنية ويعادي الأجانب من جهة، واليسار الذي يدافع عن القيم الإنسانية الأممية والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى. لذا، يجب التركيز على هذا المتغير واستغلال دور الشباب، سواء داخل أجهزة الأحزاب السياسية التقليدية أو في علاقتهم مع الإعلام والمجتمع.
ظاهرة دور الشباب في السياسة تأتي في سياق سياسي وجيوسياسي ملائم، حيث أصبحت ظاهرة عالمية يعتبر فيها عنصر الشباب مكوناً بارزاً ومميزاً في دعم تفعيل العملية التنموية الشاملة والسياسية والمجتمعية. وعلى الرغم من أن الحديث عن قضايا الشباب ومشكلاتهم واهتماماتهم ومحاولات إيجاد الحلول الملائمة لها يستمر، فإن المشاركة السياسية في أي مجتمع تمثل المحصلة النهائية لسلسلة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والسلوكية التي تتشابك في تحديد دور الشباب في المجتمع ومكانتهم في مسار النشاط السياسي، وذلك حسب طبيعة النظام السياسي وعلاقة النخب السياسية والثقافية والإعلام، وكذلك العلاقة الجدلية بين الشباب والسلطة.
تبقى العلاقة بين الشاب والسلطة والأحزاب السياسية في العديد من البلدان بعدم الثقة وأحياناً بالرفض، سبب ذلك فجوة واسعة بين إفلاس الأحزاب وفشل السلطة ووعي غير مسبوق للشباب في تعاطيه لمواضيع، ظنت الأجيال السابقة أن هذا الجيل، جيل الألفية، هو جيل يعيش في عالم افتراضي إلا أن شباب اليوم أثبتوا العكس واستدركوا على كسر نمط الكسل وعدم الوعي، وخير دليل على ذلك الحراك الطلابي العالمي لمساندة القضية الفلسطينية وكشف الصهيونية العالمية. فمسألة عزوف الشباب عن السياسة والانخراط في الأحزاب على الطريقة الكلاسيكية هو بروز جيل جديد تموضع في الفضاء العام بطريقته ووسائله التي غيرّت مفهوم النضال السياسي الذي كان محتكراً لدى نخب غلب عليها طابع الأيديولوجيا والاستعلاء الفكري.
نهاية الأيديولوجيات
الشباب اليوم منقسمون إلى فئات غير متحزبة أو غير أيديولوجية، على عكس شباب ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، نتيجة للبعد الجيوسياسي للنظام الدولي في تلك الفترة وسرديات الحرب الباردة. من أهم العوامل التي تجعل الشباب اليوم أكثر تطلباً (demanding) من الأحزاب والنخب والسلطة في المشاركة السياسية هو كيفية تعاطيهم مع الأخبار وسرعة بلورتها في محيطهم. أصبح الشباب يطالبون بالتمثيل الفعلي وكسر أسطورة عامل السن والنضج في السياسة. وبالتالي، يبقى موضوع عزوف الشباب عن السياسة مرتبطاً بغياب التمثيل السياسي لهم نتيجة لغياب الديمقراطية داخل الأحزاب وتهميش الشباب.
هذا التهميش، الذي يعد أحياناً ممنهجاً، دفع الشباب إلى عدم الاهتمام بالشأن العام، وهو ما يراه الجيل السابق، ما خلق صراعاً بين الأجيال. وقد أدى ذلك إلى فقدان جيل الألفية الثقة في جدية الإصلاح السياسي ونزاهة الانتخابات، فضلاً عن جدوى المشاركة في الحياة السياسية، خاصة في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
نسبة الشباب الذين يعتقدون أن أصواتهم لا تُحتسب في الانتخابات الوطنية أو المحلية كانت عالية جداً في المنطقة. يعزو الشباب هذا الاعتقاد إلى افتقار القواعد الأساسية للشفافية والانتقال السلمي للسلطة بين الجيل السابق وجيل اليوم. بناءً على ذلك، فإن فرضية الصراع بين الأجيال وسيطرة جيل من كبار السن على قيادة الأحزاب والمؤسسات المهمة في الدولة، وعدم إتاحة فرص المشاركة للشباب في المسار الديمقراطي في بلدانهم، جعلت عدداً كبيراً من الشباب لا يؤمنون بالسياسة وممارساتها. كما ينظرون إلى السياسيين كانتهازيين ومفسدين، ما يزيد من عدم الثقة في النظام السياسي.
تُعتبر فترة الانتخابات عموماً بمثابة مسرح على الهواء لزيادة الوعي ورفع نسبة المشاركة، خاصة بين الشباب. وهذا ما يحدث في فرنسا منذ شهور، حيث دخل رؤساء قوائم الأحزاب السياسية الفرنسية المتنافسة في الانتخابات الأوروبية، متمثلين في شباب ووجوه جديدة اكتشفها الناخب الفرنسي خلال الحملة الانتخابية الشرسة. تميزت هذه الحملة بالمناظرات والمداخلات الإعلامية في ساحات المدن الكبرى الفرنسية.
على سبيل المثال، تمثل وسط اليمين فاليري هاير، مرشحة حزب النهضة الحاكم، والبالغة من العمر 37 عاماً. ومن حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني، يقود جوردان بارديلا، الذي يبلغ من العمر 28 عاماً، الحملة. بينما تتزعم ماريون مارشال، ابنة شقيقة مارين لوبان وحفيدة جون ماري لوبان، حزب “استرجاع!”، المعروف بتطرفه اليميني الأشد، وتبلغ من العمر 35 عاماً. هذه الوجوه الشابة الجديدة تسعى لجذب الناخبين من خلال حملاتها الانتخابية المكثفة، ما يعكس صراع الأجيال والتنافس بين التيارات السياسية المختلفة في فرنسا.
وإكزافييه بيلامي، رئيس قائمة حزب الجمهوريين، البالغ من العمر 39 عاماً، وعلى اليسار، ليون ديفونتين، رئيس قائمة الحزب الشيوعي، البالغ من العمر 28 عاماً، ورافايل جلوكسمان، رئيس قائمة الحزب الاشتراكي، البالغ من العمر 45 عاماً، ومانو أوبري، البالغة من العمر 35 عاماً، رئيسة قائمة حزب فرنسا الأبية اليساري الذي يتزعمه جان لوك ميلنشون.
شكلت هذه القائمة اهتماماً سياسياً وإعلامياً غير مسبوق في فرنسا، خاصة مع استمرار العدوان الغاشم على الفلسطينيين في غزة. وبرزت القائمة بعد ضم اسم الناشطة الحقوقية الفرنسية-الفلسطينية ريما حسن، البالغة من العمر 32 عاماً، في المرتبة السابعة ضمن قائمة المرشحين. رفض حزب فرنسا الأبية الحرب الهستيرية للكيان الصهيوني على قطاع غزة، واستطاع قادة الحزب أن يجعلوا موضوع الحرب على قطاع غزة محوراً أساسياً في حملتهم الانتخابية.
سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون على المحك
نتوقع أن تكون لنتائج هذه الانتخابات تداعيات سياسية داخلية في فرنسا، حيث تعتبر استفتاءً شعبياً على سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون خلال السنوات الثماني الماضية، وهي الفترة التي قضاها في قصر الإليزيه. تبرز هذه الانتخابات كمنافسة بين قطبين: الوسطيين الليبراليين، الذي يقوده حزب ماكرون الحاكم منذ عام 2017، والذين يتبنون سياسات منفتحة على أوروبا، وبين الوطنيين المتشددين والمنفصلين عن الاندماج الأوروبي، والممثلة في الأحزاب اليمينية المتطرفة، بالإضافة إلى حزب فرنسا الأبية الذي يطالب بأوروبا أكثر عدالة وخدمة للشعوب.
تُعتبر حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون حالة استثنائية في الساحة السياسية الفرنسية، حيث دخل القصر الإليزيه وهو في الأربعين من عمره، ما يجعله أصغر رئيس للجمهورية في تاريخ فرنسا منذ نابليون بونابرت، وهو أيضاً أول رئيس يأتي من خارج الأحزاب التقليدية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958.
إلا أن ماكرون يواجه معضلة خطيرة، وهي صعود اليمين المتطرف في فرنسا، الذي أصبح تياراً فكرياً عنصرياً متشدداً يروج لخطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين في فرنسا، وذلك على خلاف كل الرؤساء الفرنسيين السابقين مثل الرئيس فرانسوا ميتران من الحزب الاشتراكي والرئيس جاك شيراك من حزب اليمين المعتدل (التجمع من أجل الجمهورية). يعتبر ماكرون مسؤولاً إلى حد كبير عن تعزيز مكانة الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا، وذلك من خلال تعميم خطابهم الشعبوي الاستبعادي وسياساته غير المنطقية تجاه المهاجرين، وهو ما دفعه لتشكيل ائتلاف برلماني مع حزب الجمهوريين في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.
الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته قد جعلوا أحزاب اليمين المتطرف أقوى قوة سياسية في فرنسا مقتربة من نسبة 40%، وهو أمر لم يحدث في تاريخ الجمهورية الخامسة من قبل. ومن المتوقع أن تكون الانتخابات الأوروبية في فرنسا اختباراً تمهيدياً، حيث ستحدد ملامح المشهد السياسي الداخلي وكيفية تفاعل الشباب قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2027 المقبلة، في ظل محاولة مرشحي أحزاب اليمين المتطرف لكل من مارين لوبان وإريك زيمور وإريك سيؤتي بتشكيل تحالف يميني على النموذج الإيطالي الحاكم كونهم يرون أنه قد حان الوقت للحكم والدخول إلى قصر الإليزيه.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو دور عنصر الشباب داخل أحزاب اليمين المتطرف؟ هل هو مقيد بالطاعة ولغة الخشب كأسلوب لنشر أفكار عرّاب اليمين المتطرف، أم أنه يمثل مجموعة انتهازية تستغل غضب واستياء المواطن؟