لم تنجح حتى الان جهود المفاوضات المتعثّرة بالتوصل الى اقرار هدنة في غزّة بموازاة تصعيد متواصل في الجبهات المساندة للمقاومة الفلسطينية بدءا من اليمن مرورا بالعراق وصولا الى لبنان والخشية من الانزلاق في اي لحظة الى حرب شاملة في المنطقة وسط معلومات امنيّة دقيقة حذّرت من عمل عسكري إسرائيلي يدبر تجاه جنوب لبنان.
منذ الثامن من أكتوبر ارتفع التصعيد العسكري الإٍسرائيلي غير المسبوق ضد لبنان والذي يأتي في سياق محاولة استدراج حزب الله للدخول في حرب مفتوحة لا يسعى اليها لكنه مستَعِد لخوضها إذا ما فُرضت عليه حيث يؤكد الحزب ان جبهة لبنان مساندة لغزة ولن يسمح لإسرائيل بتحقيقِ انتِصار كما لا زال الحزب يمارس ضبط النفس وسقف الضربات المتبادلة واستيعاب العدوان الإسرائيلي الذي بلغ ذروته في الايام الاخيرة بتحويل معظم البلدات والقرى الواقعة في جنوب الليطاني إلى أرض محروقة وغير مأهولة بالتوازي تم رحيل أكثر من 200 ألف مُستوطن من الجليل الأعلى ولا يزال أكثر من 50 ألفاً بانتظار إجلائهم بعد ثمانية أشهر من القتال بعدما اصبحت المنطقة الشّماليّة كلّها تقريبًا غير صالحة للحياة البشرية.
نتنياهو يهرب من ازمته الداخلية الى الأمام صوب الجبهة الشمالية ولهذا يريد إبقاء بلاده في حالة حرب لتجنب ذهابه إلى السجن بسبب تهم الفساد التي يواجهها حيث يواصل الاندفاع المتهور لمهاجمة لبنان وتوسيع نطاق الصراع وتكرار التصريح علنا نحن مصممون على إحداث تغيير جوهري على طول حدودنا مع لبنان لضمان سلامة مواطنينا واستعادة السلام في شمالنا وقد حان الوقت للدخول في حرب شاملة ضد حزب الله وطرد سكان جنوب لبنان البالغ عددهم 400 ألف نسمة إلى ما وراء الليطاني وخلق منطقة عازلة لحماية مستوطنات ومدن إسرائيل.
الرئيس الامريكي جو بايدن بدوره وخلال زيارته الاخيرة لتل أبيب بعد عملية طوفان الاقصى ومع بدء العدّ العكسي لانطلاق الانتخابات الرئاسية الأميركية اكد أن واشنطن لن تترك إسرائيل تحت تهديد مقاتلي حزب الله وفي المجتمع الاسرائيلي تتولد القناعة لدى الإسرائيليين عموماً ومستوطني الشمال خصوصاً بأن حزب الله غير مردوع وان اكثر من 70% منهم يؤيدون الاشتباك العسكري على نطاق واسع مع حزب الله ويوافقون على اعطاء الشرعية لأي قرار تصعيدي مرتقب بحقه خاصة في ظل خشية اسرائيل المستمرة من تكرار سيناريو 7 أكتوبر من قبل قوة الرضوان وبالتالي فان تل ابيب تتحضر لمرحلة الحسم بالاجتياح البري للأراضي اللبنانية بحسب زعمها.
في الاثناء وفي اطار دعم للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسنادا لمقاومته الباسلة يصعد حزب الله وتيرة عملياته النوعية المركّبة ويضرب المواقع العسكرية الحساسة التي ادخلها الى قائمة الأهداف المنتقاة مع زيادة ملحوظة في اعداد قتلى الجيش الاسرائيلي على الجبهة الشمالية وقد اكد الامين العام للحزب بان مقاتليه جاهزون لأي مغامرة إسرائيلية تجاه لبنان كما بين ان هذه المرة لن يكون مسرح العمليّات على الاراضي اللبنانية بل سننقل المعركة الى داخل المستوطنات في الشمال.
خلال الشهرين الماضيين وبعد زيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين الاخيرة الى بيروت والتي استُبقت برسالة اميركية ساخنة الى لبنان مُررت عبر شبكة سي ان ان مفادها انّ اسرائيل ستشن هجوما بريا في جنوب لبنان نهاية الربيع او بداية الصيف وفي ذات الوقت ابدى احد المسؤولين الاميركيين تلميحه الى انّ الضربات الاسرائيلية ستطال العمق اللبناني صوب اهداف محددة في الضاحية الجنوبية لكن أبرز الرسائل أتت من الجانب البريطاني الذي حدّد موعداً للضربة الإسرائيلية في منتصف يونيو/ حزيران الجاري وقدم نصائح للمسؤولين اللبنانيين بضرورة القيام بإجراءات التموين اللازمة للحرب التي لن يكون معروفا مدى رقعة توسعها ولا مدتها الزمنية.
بعض الأسئلة المطروحة هنا على سبيل المثال الى متى تصبر إسرائيل على تلقي رشقات القذائف الصاروخية وضربات الطائرات المسيرة على المستوطنات والمدن الكبرى مثل عكا وكريات شمونة ونهاريا وهل يستطيع نتنياهو فتح جبهة الشمال امام حرب شاملة مع حزب الله بجيش منهَك في ميدان معارك غزّة على مدى ثمانية شهور ذاق فيها ظطم الهزيمة المرة وتكبد افظع الخسائر بالإضافة الى أعداد لا يُستهان بها من ضباطه وجنوده الذين باتوا يخضعون للعلاج النّفسي وبالأصل هل يضمن نتنياهو الدعم الاميركي لهذه الحرب غير المضمونة للقضاء على حزب الله.
أيضا السؤال الاخر هل كل هذه التهديدات التي يطلقها القادة الإسرائيليون هي من باب التهويل ام انه يجب الاخذ بالاحتمالات الجدية لحدوثها خصوصا وأنّ من يقود حكومة الاحتلال الان مستعدّ لقلب الطاولة على رؤوس الجميع والمقامرة والمغامرة حتى بآخر جندي ومستوطن في الكيان الإسرائيلي وكذلك هل جهّز فعلا لعمل عسكري ضدّ لبنان قد يكون وشيكا ام ان هذه التهديدات تأني على أمل اسرائيلي بالتوصل إلى اتفاق عن طريق التراضي بالتفاوض ومن باب الضّغوط الأميركية- الإسرائيلية القصوى على لبنان لتقديم تنازلات في ملفّ الثروة النفطية.
يعلم الجميع بان اسرائيل تدرك جيدا وهي تراقب تصاعد عمليات حزب الله النوعية في الاسابيع الاخيرة انه يمتلك مفاجآت مرعبة في البحر والجو ستكون خارج الحسابات والتوقعات العسكرية الاسرائيلية وقد لا تقتصر على خطر التوغّل في الجليل عبر الانفاق المحصنة وان الحزب على جهوزيته الفائقة وكأن الحرب حاصلة غدا حيث أعد ودرب مقاتليه لاحتمال قيام اسرائيل بعملية برية محدودة في الجنوب في مساحة تتراوح بين 5 الى 7 كلم وربما توسع الهجمات شمالا باتجاه بيروت وذلك بعد اقرار الهدنة في غزة.
المرحلة المرتقبة ستكون ساخنة جدا بلا شك ولكن ورغم كل ذلك استبعد عدد من المسؤولون والدبلوماسيون مبادرة اسرائيل الى مغامرة ضدّ حزب الله في لبنان خشية فتح الأبواب امام حرب شاملة بلا ضوابط وسقوف تبدأ بقصف الالاف الصواريخ الضخمة والمسيرات الانقضاضية التي تطال جميع انحاء اسرائيل وبدمار ابعد مما تُقدّره اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية ناهيك عن امكانية سرعة حرك ساحات الاسناد للمقاومة في مواقع اخرى كاليمن والعراق وغزة في المشاركة بالحرب.
حزب الله لا زال يلتزم حتى الان بكل قواعد الضوابط والسقوف كيلا يكون بنظر العالم هو المبادر الى حرب شاملة يتحمّل وزرها وتداعياتها خصوصا على لبنان الا انه سيذهب اليها اذا فٌرضت عليه من دون سقوف وضوابط كما قال امينه العام السيّد حسن نصرالله حيث ستكون الطّامة الكبرى بل الكارثة العظمى على اسرائيل التي تجهل المخفي الأعظم لما في حوزة حزب الله من اسلحة بحرية ودفاع جوّي تمكن من اسقاط اكثر من طائرة هيرمز450 بدون طيّار المتطورة جدا وباهضة الثمن فضلا عن امتلاكه عدة منظومات صاروخية غربية متطورة تم بيعها في السوق الاوكرانية السوداء اضافة الى ترسانته مكافآت صاروخية حصل عليها من موسكو في اوج الحرب السورية مقابل دوره في تحرير اسرى روس-بينهم طيار وقعوا في قبضة احدى التنظيمات الجهاديّة.
الحقيقة الراسخة انه إذا كانت اسرائيل وقواتها تقف اليوم عاجزة في رفح وجباليا وحيّ الزيتون وغيرها من احياء قطاع غزة امام ثلّة من المقاومين ولا تعرف من اين تأتيها ضرباتهم فكيف تهدد باجتياح برّي في جنوب لبنان بجيش بات الألاف من عديده من ذوي الإعاقات الدائمة وتنتظر مفاجآت مرعبة ستكون خارج حساباتها وحسابات الراعي الأميركي لهذا الكيان الذي بات فعليا امام خطر وجودي محدق فهل يقفز نتنياهو من القارب الى المحظور ويبادر الى اشعال المنطقة بحرب اقليمية مدمرة.
الحرب المحتملة على ضاحية لبنان الجنوبية وفقا لمعطيات الواقع وتحليلات بعض المراقبين قد تؤجَّل الى أشهر قادمة ريثما يستعيد الجيش الاسرائيلي عافيته يعد معارك غزة التي انهكته وربما يُحدد توقيت انطلاقها مع عودة الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب مجددا الى سدة الرئاسة حيث سيشجّع ويدعم حرب اسرائيل ضد حزب الله وربما يكون غير ذلك وتنتهي الامور بتسوية تهدئة على الجبهة الجنوبية اللبنانية ترضي طرفَي المواجهة بحيث لا يتراجع حزبُ الله الى شمال الليطاني وتعيد تل ابيب المستوطنين الى الشمال بضمانة دولية.
إجمالا وفي المحصلة النهائية فإنه من المحتمل أن تتسع المواجهة بين حزب الله وإسرائيل لكنه من غير المرجح بحسب تقديرات خبراء اولية تحويل بيروت إلى غزة أو إعادة البلاد إلى العصر الحجري رغم التهديدات الإسرائيلية ومن غير المتوقع كذلك حدوث غزو بري لجنوب لبنان وان اقصى ما يمكن ان تقعله اسرائيل هو مواصلة التوسع المطرد في هجمات الطائرات المسيرة والضربات الجوية المركزة على أهداف حيوية منتخبة لحزب الله.
يذكر ان إسرائيل غزت لبنان في عامي 1978 و1982 عندما حاصرت بيروت الغربية واحتلت جنوب البلاد من 1985 إلى 2000 كما خاض حزب الله وإسرائيل حربا عام 2006 وهي تجارب مؤلمة لا تزال حية في أذهان الاستراتيجيين الإسرائيليين.
حتاما لابد ان نفهم ان ما يجري اليوم في غزّة ليس حربا كبقيّة الحروب السابقة بل هي معركة تاريخيّة فاصلة وحاسمة وما بعدها ليس كما قبلها على الإطلاق.