أوروبا

رئيسة المفوضية الأوروبية.. في جيب ميلوني!

رئيسة المفوضية محاصرة حالياً بإشارات الاستفهام والاتهامات بسوء الإدارة، والمحسوبية، وصولاً إلى التورط بالفساد. وثمة تحقيقات لا تزال مستمرة، يتركّز أبرزها على اتصالاتها "من وراء ظهر المفوضية" ومسؤوليها.

اليمين المتطرّف الذي تتوّجت مسيرة صعوده باقتناص هولندا، إحدى الدول الست المؤسسة للاتحاد الأوروبي، بات يتطلّع للسيطرة على الاتحاد نفسه، وإن بشكل غير مباشر. قد يتحقق هذا الحلم طالما أن القاعدة الذهبية “أبداً لا تقلّ أبداً ” فليس هناك مستحيل في السياسة لأنها هي فن المساومة في حدّ ذاته. بيد أن انقسامات داخلية وصعوبات خارجية يمكنها أن تعوق ترجمته إلى واقع. ويبدو أن رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني زعيمة حزب “أخوة إيطاليا” الذي خرج من رحم فاشية بنيتو موسوليني، مصمّمة على تخطّي الموانع أياً كانت.

تدرك الزعيمة التي قادت بلادها في السنتين الماضيتين بنجاح وبراغماتية لم تكن متوقعة، أن بوسعها أن تصبح “صانعة ملوك” من موقعها على رأس كتلة “الإصلاحيون والمحافظون الأوروبيون”. ولن تفرّط بالفرصة التي من شأنها أن تضع روما في صدارة القارة، سواءً رضيت كتلة “الهوية والديموقراطية” اليمينية المتطرفة الثانية بقيادة مارين لوبن، أم لم ترضَ. والأخيرة مدّت يدها الى ميلوني علناً، محاولة تناسي أنهما على طرفي نقيض في ما يخصّ حليفها الكبير فلاديمير بوتين وغزوه لأوكرانيا، وأيضاً حيال الاتحاد الأوروبي ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، التي يتردّد أنها “تغازل” الزعيمة الإيطالية، ملتمسة العون منها للبقاء على رأس عملها 5 سنوات أخرى.

ولم تعلن ميلوني بعد إذا كانت ستمدّ يدها إلى لوبن أم إلى فون ديرلاين. إلّا أن هناك مؤشرات إلى أنها تتجّه إلى دعم مشروع التمديد لرئيسة المفوضية لولاية ثانية. ويُقال إن السيدتين تتعاونان سلفاً بموجب صفقة تكتمتا عليها. وتكثر التكهنات عن مآل التقارب المطرد بينهما في أكثر من مجال، وتحوّل ميلوني من خصم شرس للاتحاد الأوروبي إلى صديق مخلص له.

والواقع أن الصفقة ستصبّ في مصلحة رئيسة الوزراء الايطالية أولاً. فهي زعيمة منتخبة تمثل تياراً سياسياً، ستساهم مساعدة فون دير لاين في بلورته وتعزيز تأثيره على المدى الطويل. وربما يعينها ذلك أيضاً على التفوق على منافستها غير المعلنة مارين لوبن. أما حليفتها المفترضة، فموظفة يعينها رؤساء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وقد تصبح من ذكريات الماضي بعد نهاية ولايتها التي تدوم 5 سنوات. وهي وتحتاج الآن لرئيسة المفوضية لتمرير خططها حول قضايا مختلفة منها الهجرة، تلك المشكلة المستعصية التي عجزت عن معالجتها كما تعهّدت لناخبيها. وستستعين بها في مواجهة السياسات البيئية التي يعارضها اليمينيون الشعبويون.

من ناحية أخرى، رئيسة المفوضية محاصرة حالياً بإشارات الاستفهام والاتهامات بسوء الإدارة، والمحسوبية، وصولاً إلى التورط بالفساد. وثمة تحقيقات لا تزال مستمرة، يتركّز أبرزها على اتصالاتها “من وراء ظهر المفوضية” ومسؤوليها، مع رئيس شركة “فايزر” الذي عقدت معه صفقة لشراء جرعات من لقاح كوفيد بقيمة نحو 20 مليار يورو. كما أنها أثارت موجة من الاستنكار حينما عيّنت ماركوس بيبر النائب الألماني في البرلمان الأوروبي عن حزبها “الاتحاد الديموقراطي المسيحي” براتب فضفاض، مبعوثاً خاصاً للمفوضية للشركات الصغيرة، واضطر إلى الانسحاب قبل تسلّمه هذه الوظيفة.

غير أنه سيكون للتحالف ثمنه. قد تواجه ميلوني تمرّداً في الداخل، فحليفها في الحكومة ماتيو سالفيني زعيم “رابطة الشمال” مستاء من علاقتها برئيسة المفوضية. وستنأى كتلة “الهوية والديموقراطية” بنفسها عنها إذا اتفقت فعلاً مع فون ديرلاين. فهل تتخلّى عن اليمين المتطرّف الذي رشحها الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان لزعامته التي ستجعلها أول شخصية سياسية إيطالية يتخطّى نفوذها حدود بلادها منذ موسوليني؟

أما بالنسبة إلى حليفتها، فقد لوّح، سلفاً، المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بحرمانها من المنصب إذا تعاونت مع اليمين المتطرّف. والتذمر في أوساط النواب، بمن فيهم بعض أعضاء كتلة “حزب الشعب الأوروبي” التي تمثلها، يزيد من خطورة الموقف. وإذا رفض 10 في المئة من نواب كتلتها وكتلتي ” التحالف التقدّمي للاشتراكيين والديموقراطيين” و “رينيو”، التصويت لمصلحتها، فلن تنال أغلبية الـ 361 صوتاً اللازمة للبقاء على رأس الاتحاد. ما سيجعلها في حاجة ماسّة إلى حليفتها الإيطالية.

الواقع أشدّ تعقيداً. وعلاقات شولتس وماكرون، صاحبي أكبر حصتين من مقاعد البرلمان اللذين يقودان عملياً الاتحاد الأوروبي، تعاني من الفتور. واتخاذ قرار موحّد برفض ترشيحها في المجلس الأوروبي ليس مضموناً. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن اليمين المتطرّف سيلحق بكل منهما هزيمة ساحقة في انتخابات الخميس المقبل. وليس أكيداً أنهما سينجحان في العثور على بديل معقول لفون ديرلاين من كتلتها التي ستبقى رئاسة المفوضية من نصيبها بوصفها المجموعة البرلمانية الأكبر. كما أن من غير الواقعي الحديث عن ترشيح رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي، الذي قيل إن ماكرون يريده رئيساً جديداً للمفوضية. ولا يستبعد أن ينجح اليمين المتشدّد في وضع فون ديرلاين في جيبه.

هكذا لا يبدو تهديد الاشتراكيين والليبراليين كافياً لتوجيه دفة الاتحاد في الوجهة التي يريدونها. لكن هل سيقوى هؤلاء على المغامرة بالردّ على ضربات اليمين الشعبوي عوضاً عن محاولته استيعابه ومنافسته على الشعارات نفسها؟ ربما تأخّروا كثيراً في الوقوف في وجه “الاجتياح” اليميني. إلّا أن السكين بات قاب قوسين أو أدنى من عنقهم. ولا يستبعد أن يكون دفاعهما عن رئاسة المفوضية الأوروبية هو آخر معاركهم ضدّ اليمين المتطرف المرشح للسيطرة على الاتحاد الأوروبي في الانتخابات المقبلة بفون ديرلاين أو من دونها.

وعلى الأحزاب التقليدية الأوروبية أن تستعد من الآن فصاعداً للتعاطي مع قيادات جديدة، تفتقر في معظمها إلى التجربة، وستمضي بالاتحاد في اتجاهات مختلفة لها خيارات شعبوية تعطي الأولوية للصناعات على حماية البيئة وتتصلّب في مقاربة  قضايا الهجرة والدفاع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى