مصر.. وعبارة الخط الأحمر
سمع المصريون هذه العبارة كثيرا الفترة الماضية، وظهرت بوضوح في أزمة ليبيا عندما بدأت تركيا تمد بصرها عسكريا نحو الشرق منذ أربعة أعوام، ووقتها تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسي عن طريق سرت – الجفرة وقال إن تجاوزه خط أحمر للقاهرة،
بدأت عبارة الخط الأحمر تتردد كثيرا في بعض التفاعلات الإقليمية والدولية على ألسنة قادة ومسؤولين وسياسيين وإعلاميين في مشارب مختلفة، والمراد من هذه العبارة أن الدولة (أ) ستتخذ إجراءات قاسية ضد الدولة (ب) على الفور إذا تجاوزت خطا معينا رسمته في عقلها، أو على خارطتها الجغرافية، وهو خط وهمي تحدده الدولة (أ) لتأكيد رفضها لإجراءات معينة قد تتخذها الدولة (ب) ويمكن أن يضر بمصالح الأولى وأمنها القومي، وهي عبارة تؤكد الجدية والحسم وعدم التهاون.
سمع المصريون هذه العبارة كثيرا الفترة الماضية، وظهرت بوضوح في أزمة ليبيا عندما بدأت تركيا تمد بصرها عسكريا نحو الشرق منذ أربعة أعوام، ووقتها تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسي عن طريق سرت – الجفرة وقال إن تجاوزه خط أحمر للقاهرة، في إشارة إلى إمكانية التدخل عسكريا، ثم هدأت العاصفة، حيث لم تتجاوز تركيا أو المرتزقة التابعون لها هذا الخط، ما أوحى أن هذه النوعية من الأسلحة الردعية أو التحذيرية لها أهمية كبيرة في تجنب نشوب حروب إقليمية.
وسمع المصريون مرة ثانية عن هذا الخط بصورة غير مباشرة على ألسنة بعض المسؤولين، وبشكل مباشر من قبل بعض وسائل إعلامهم في التعامل مع إثيوبيا عندما نشبت أزمة سد النهضة، وجاءت الإشارة إليه بصيغ عدة، من بينها أن كل السيناريوهات مفتوحة، بما فيها الأدوات الخشنة، والتلويح مباشرة باستخدام القوة العسكرية، وفي الحالتين بدا الخط الأحمر في ذهن القاهرة مرتبطا بمدى التداعيات السلبية التي سوف يخلفها بناء السد على حصة مصر من مياه النيل، وحتى الآن أوشكت أديس أبابا على الانتهاء من تشييد سد النهضة ولم تتأثر القاهرة بصورة ملحوظة في الوقت الراهن، تدفعها للحديث عن تجاوز الخط الأحمر.
بمعنى آخر مصر “تأثرت ولم تتأثر”، إذ بنت إثيوبيا الجزء الأكبر من السد واتخذت من الإجراءات ما لا يجعل التأثيرات القاتمة على القاهرة ظاهرة وتمنحها مبررات للحديث عن اختراق ثوابتها المعلنة، فلا زالت مياه النيل تتدفق حتى شمال مصر، وتم احتواء الانعكاسات السلبية البسيطة بلا ضجيج، وهي حالة يحتار فيها المراقب، هل حدث عدوان حقيقي على الخط الأحمر أم لا، ما يؤكد أن شكل الخط يتوقف على تفسير الدولة (أ) لمضمون التجاوز وحدوده وآفاقه.
وسمع المصريون مرة ثالثة عن عبارة الخط الأحمر عندما ظهر سيناريو التهجير من غزة إلى سيناء، وبعد أن هددت إسرائيل باجتياح رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا (صلاح الدين) الذي يفصل بين حدود قطاع غزة ومصر، وقامت إسرائيل بالاجتياح والسيطرة على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، وأمعنت في الصلف بخطاب البعض من قادتها حول السيطرة على محور فيلادلفيا مؤخرا، ربما لاختبار النوايا المصرية وجس نبض القاهرة حيال فكرتها عن الخط الأحمر وما يمكن أن يحدث عند تجاوزه.
نجح الخط الأحمر المصري في منع التهجير حتى الآن، وحاولت القاهرة تخطي مأزق رفح عبر تحاشي التركيز على عدم مصداقية تصريحات بعض المصادر المسؤولة عند حديثها عن هذا الخط من خلال تفسيرات ترددت على ألسنة مصادر مختلفة، بينها إعلاميون كبار، الأول أن اختراق محور فيلادلفيا والسيطرة على معبر رفح تم التعامل معه برفض التعاون مع إسرائيل وإدخال المساعدات الإنسانية بالتنسيق معها وفي غياب أي سلطة فلسطينية، من حماس أو السلطة الوطنية في رام الله، والثاني أن اختراق إسرائيل للمحور والمعبر له علاقة باتفاقية المعابر بينهما والسلطة الفلسطينية ومشاركة الاتحاد الأوروبي أكثر من اتفاقية السلام بين البلدين.
والتفسير الثالث والمهم، أن القاهرة تلقت تطمينات من إسرائيل والولايات المتحدة أن قوات الاحتلال لن تتواجد بكثافة في هذه المنطقة وسيتم انسحابها في أقرب فرصة، في إشارة تنطوي على حث مصر على عدم زيادة التصعيد السياسي والحديث عن شكاوى تقدم لجهات دولية حول تجاوز اتفاقية السلام بشأن تمركز قوات إسرائيلية ثقيلة في المنطقة (د)، بهدف فرملة الاندفاع حول لغة التهديد من خلال العزف على وتر الخط الأحمر الذي يحمل علامة على خشونة منتظرة.
ألمحت إسرائيل إلى سوابق في اختراق المنطقة (ج) وتواجد قوات عسكرية كثيفة بها في ذروة الحرب على الإرهاب في سيناء، ولاتزال الكثير من الوحدات المصرية الثقيلة تتمركز في هذه المنطقة (ج) حتى الآن، ووقتها كان التنسيق الأمني المشترك لافتا لمنع تضخم التنظيمات الإرهابية وتغولها في سيناء وربما تهديد إسرائيل، وهو ما جعل بعض الأصوات في تل أبيب تعيد خطابها عن تعاون أمني مشترك في رفح، على الرغم من نفي مسؤولين رفيعي المستوى في مصر هذه المسألة.
لم تقتصر عبارة الخط الأحمر على مصر، حيث استخدمتها الإدارة الأميركية في تحذيرها لإسرائيل من القيام بعمليات عسكرية كبيرة في مدينة رفح تؤدي إلى وقوع ضحايا كثر من المدنيين، وبعد قصف مدمر على مخيم في غرب رفح، راح ضحيته العشرات من الفلسطينيين المدنيين، نصفهم أو أكثر من النساء والأطفال، زعمت واشنطن أنها لم تر تجاوزا واضحا، وحاولت تلمس أعذار لإسرائيل وتبرير تصرفها بوجود عناصر من حماس وسط المدنيين كي تتجنب اللجوء إلى ما يفرضه الخط الأحمر من طقوس وتبعات ومسؤوليات أميركية.
كسرت الحرب على غزة عموما، وفي مدينة رفح خصوصا، الكثير من القواعد التي يستند عليها الخط الوهمي، من جهتي مصر والولايات المتحدة، وقد تفقد فكرة توظيفه سياسيا في أماكن أخرى مفعولها، إذ يمكن التعامل معه باعتباره على سبيل التهديد وليس الردع، والتهاون بالتحذير الذي يحمله لن يفضي إلى استخدام الخشونة المطلقة، وهي واحدة من الاستنتاجات التي تكبح اللجوء إلى عبارة الخط الأحمر لدى البعض، طالما أن هناك فرصة للتحايل عليه.
تكمن المشكلة في الرمادية التي يحويها هذا الخط، إذ يمكن إيجاد تفسيرات متباينة تختلف من دولة إلى أخرى، ويمكن الالتفاف عليه أو المساومة عندما تكون هناك سوابق مماثلة لدى الدولة (أ) صاحبة التحذير، وتشير نتائج معركة رفح إلى وجود مرونة، إذا كانت النتائج التي يصطحبها اختراقه مؤثرة وقوية على الدولة التي حاولت توظيفه كأداة ردع أو فعل، وتوجد مبررات للتراجع عنه من قبيل أن الخسائر التي تترتب عن استخدام الخشونة باهظة وتفتح الطريق أمام حدوث فوضى قد تصعب السيطرة عليها.
ولذلك تراجع توظيف الخط الأحمر في التفاعلات الدولية، لأن مفهومه العام تحول من وسيلة تعزز القوة إلى أداة توحي بالضعف، فالدولة (أ) التي تريد الاشتباك من أجل حماية أمنها القومي ليست في حاجة إلى تحديد خط وهمي، كأنها تقول إنها عاجزة، ما يمنح الدولة (ب) فرصة للاستعداد والجاهزية والبحث عن خطوط بديلة تجهض الأهداف التي يحملها الخط الأحمر.