قرارالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، بتقديم طلب لهيئة قضاة المحكمة، لإصدار مذكرات اعتقال دولية ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب يؤاف غالانت، (وإسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف من حماس) بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في ما يتعلق بهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على غزة، أثار ردود فعل إسرائيلية رسمية غاضبة. وكان نتنياهو قد هدد السلطة الفلسطينية في وقت سابق، بأنه في حال إصدار محكمة الجنايات أوامر اعتقال بحقه وبحق مسؤولين إسرائيليين آخرين، فإنه سيوقف كليا تحويل عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عنها.
وكانت الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية قد تعمقت خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بعد قرار حكومة نتنياهو ـ بن غفير ـ سموتريتش اقتطاع مبلغ 275 مليون شيكل (نحو 74 مليون دولار) وهو المبلغ المخصص لقطاع غزة في موازنة السلطة الفلسطينية العامة، فدخلت في أزمة أجبرتها على صرف ثلاث دفعات من رواتب أكثر من 220 ألف موظف مدني وعسكري ومتقاعد، على مدار خمسة أشهر وبنسب لا تتجاوز الـ60٪..
الأزمات المالية التي عصفت بالسلطة لم تتوقف منذ عام 1997، بسبب توقف تحويل أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالحها، وفقا لاتفاق أوسلو، ولتراجع دعم الدول المانحة أحيانا، إلا أنها دخلت في أزمة عميقة في فبراير/ شباط 2019، بعد مصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون يقضي باقتطاع ما يصل إلى 63 مليون شيكل شهريا (17 مليون دولار) ما يعادل ما تدفعه السلطة من مخصصات شهرية للأسرى وعائلات الشهداء.
وبعد أن شنت إسرائيل حربها على قطاع غزة في أكتوبر 2023، قررت الحكومة الإسرائيلية وقف تحويل مبلغ 270 مليون شيكل (نحو 72 مليون دولار) من أموال الضرائب الفلسطينية، وهو ما تخصصه الحكومة الفلسطينية للقطاع في موازنتها شهريا، واحتجت السلطة على ذلك بامتناعها عن تسلم أموال الضرائب، التي يبلغ متوسطها الشهري نحو 950 مليون شيكل (255 مليون دولار) وتتسلم السلطة منها حاليا 350 مليون شيكل (94 مليون دولار) ما عمق من أزمتها المالية، وجعلها غير قادرة على دفع أكثر من 50٪ من فاتورة الرواتب في أفضل الأحوال. ومن ارتدادات الأزمة المالية سياسيا على السلطة الفلسطينية، تصاعد احتجاجات (قبل الحرب على غزة) النقابات كنقابة المعلمين والأطباء والمحامين، من دون تحقيق الكثير من مطالبها. وما حد من تصاعد تلك الاحتجاجات «الترحيل المجتمعي للأزمة» بمعنى أن معاناة الجميع من الأزمة الاقتصادية، أوجدت حالة من التخلف العام عن الإيفاء بالتزامات سداد إيجارات البيوت وقروض البنوك والأقساط المدرسية والجامعية.
إنّ مجمل السياسة الإسرائيلية التي يمثلها نتنياهو وحزبه الليكود تجاه السلطة، تشير إلى مخطط لإضعافها وإبقائها على حافة الانهيار، من دون السعي لتفكيكها، لكي تؤدي دورا في الحفاظ على أمن إسرائيل، أو بكلمات وزير الحرب يؤاف غالانت «السلطة الفلسطينية القوية هي مصلحة أمنية لإسرائيل». وفي المقابل فإن الوزير اليميني المتطرف سموتريتش، كان قد طرح خطة «الحسم» التي دعا فيها الى إنهاء وجود السلطة، لأنها تعبر عن الهوية الجمعية للفلسطينيين، واستبدالها بإدارات بلدية محلية منفصلة عن بعضها. إن استمرار الأزمة المالية للسلطة وتعمقها، قد تكون مقدمة لتطبيق سيناريو إنهاء وجودها واستبدالها بإدارات محلية على مستوى المناطق، كما تشير لذلك خطة سموتريتش «للحسم» أو فرض شروط عليها، تجعل منها وكيلا صريحا للحفاظ على أمن إسرائيل، وتخليها عن اعتبار نفسها آلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، مقابل إنهاء أزمتها المالية، كما تقضي بذلك سياسات نتنياهو القديمة ـ الجديدة.
وفي حالة عدم خضوع السلطة لمحاولات كهذه، فإن الأزمة المالية الخانقة ستشتد، وستدفع الموظفين الفلسطينيين في قطاعات مختلفة للنزول للشوارع للاحتجاج على سياسات السلطة المالية، وفي جميع الحالات فإن السلطة ستنهار.. إلا أن سياسة دولة الاحتلال «رسميا» تتمثل بمنع انهيارها، وإنما إضعافها إلى حد يمكن من خلاله تحويلها لوكيل أمني، إلا أن احتمالا كهذا قد يرتد على إسرائيل، في ما إذا واصلت سياسة الخنق الاقتصادي، التي ستطال بالتأكيد قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ما قد يؤدي إلى انفجار انتفاضة ثالثة، ربما تكون أشد من سابقتيها، وما يعجل في سيناريو كهذا، توفير أمريكا والاتحاد الأوروبي المظلة لسياسات إسرائيل لإضعاف الاقتصاد الفلسطيني والإبقاء على تبعيته، وانضمام دول عربية للسياسة الأمريكية ـ الأوروبية كما عكستها كواليس ما قبل عقد القمة العربية في المنامة. وبالتأكيد فإن المخططات الإسرائيلية لإضعاف السلطة وإبقائها في حالة أزمة دائمة، أو كما يقول المثل الشعبي «قوت ولا تموت» فإن ذلك سيؤدي آجلا أم عاجلا إلى انهيار السلطة ماليا، وستنتج عن ذلك احتجاجات واضطرابات عارمة في الضفة الغربية (ليس أسفا على السلطة) وإنما على فقدان عشرات آلاف الموظفين العاملين في السلطة لمصادر أرزاقهم، ويتضافر هذا مع انضمام نحو 170 ألف عامل حظرت إسرائيل دخولهم للعمل فيها بعد 7 أكتوبر 2023.
إن الضغط ماليا على السلطة، والدفع بها الى حافة الانهيار الذي سيؤدي بالتأكيد لتفككها، سيضع إسرائيل أمام أسئلة مثل: من الذي سيقدم الخدمات الأمنية لها بدلا من السلطة؟ وهل ستتحمل إسرائيل عبء إدارة شؤون نحو خمسة ملايين فلسطيني؟ كما أن حل أجهزة السلطة الأمنية، من دون وجود بديل، يعني مخاطرة إسرائيل بتصاعد عمليات المقاومة التي تستهدف المستوطنين في الضفة الغربية، أو بكلمات العميد دور شالوم رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي في تصريح في وقت سابق «إن أبرز خطرين على إسرائيل الآن هما خطر التهديد الإيراني وخطر انهيار السلطة الفلسطينية».
كما أن حل أجهزة السلطة الأمنية، من دون وجود بديل، يعني مخاطرة إسرائيل بتصاعد عمليات المقاومة التي تستهدف المستوطنين في الضفة الغربية، أو بكلمات العميد دور شالوم رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي في تصريح في وقت سابق «إن أبرز خطرين على إسرائيل الآن هما خطر التهديد الإيراني وخطر انهيار السلطة الفلسطينية».
إن تفكيك السلطة يعني عمليا إطلاق يد مجموعات المقاومة المسلحة على نطاق واسع، التي تمتنع إلى الآن عن مواجهة أجهزة أمن السلطة حقنا للدماء الفلسطينية، ما يعني أن تفكيك السلطة يشكل عاملا لانفجار انتفاضة مسلحة جديدة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وستصبح الدعوات لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة أكثر قبولا وهو آخر ما تريده إسرائيل.