مؤتمر بروكسل للمانحين.. والنهج العدائي للسياسات الأوروبية
عام جديد من التمديد للأزمة وفق ما توحي به مخرجات «بروكسل 8» والمؤكد هو أنه سيكون الأشد وطأة، من بين سني الأزمة الثلاث عشرة الماضية، على السوريين وعلى واقعهم الذي أضحى ضاغطاً بدرجة من الصعب معها التنبؤ بالمآلات التي يمكن أن يصير إليها ذلك الواقع.
عقد مؤتمر بروكسل للمانحين حول سورية بطبعته الثامنة اجتماعه الوزاري يوم الـ28 من أيار المنصرم بعد مرور نحو شهر على الاجتماع الذي تضمن الحوار مع «منظمات المجتمع المدني» والذي شاركت فيه 600 شخصية سورية كما قيل.
وما نتج عنه يظهر أن لا تغير يذكر في السياسات الأوروبية حيال سورية، وأن نهج «معاداة» الحكومة السورية ظل قائماً، الأمر الذي أمكن لمسه بوضوح عبر الإعلان عن تمديد العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي بحق هذه الأخيرة لمدة عام ينتهي في الأول من شهر حزيران من العام المقبل.
كما أمكن لمسه أيضاً عبر التصريحات التي أطلقها الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل التي حمل من خلالها الحكومة السورية المسؤولية عن «أزمة النزوح السوري في دول الجوار» من دون أن يقدم حلولاً لتلك الأزمة، لكن مع لحظ حال من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي حيال هذه المسألة، وعلى الرغم من أن الكتلة الأوزن في هذا الأخير كانت ترى غير ما يراه بوريل، إلا أن الموقفين الألماني والفرنسي، المؤيدان لوجهة نظر الأخير، كانا كافيين لتثقيل وجهة النظر تلك وتمريرها لتصبح سياسة أوروبية معتمدة حيال الأزمة السورية ولمدة عام على الأقل.
انقسم الأوروبيون، في «بروكسل 8»، إلى تيارين حيال السبل الكفيلة بحل «أزمة اللاجئين» السورية التي تمثل من دون شك هاجساً يحمل الرقم واحد لدى هؤلاء لاعتبارات تتعلق بإمكان أن تصبح أراضيهم مقصداً لأولئك اللاجئين أو لأعداد كبيرة منهم على الأقل.
وعليه فقد ضم التيار الأول كلاً: من فرنسا وألمانيا اللتين أبديتا تشدداً فاق نظيره السابق تجاه الحكومة السورية ما يعني أن كلتيهما تبني خياراتها في هذا السياق قياساً على مشاريع ومخططات يمكن الجزم بأنها واضحة تماماً في مناطق الشمال الشرقي من سورية، حيث يقيم البلدان علاقات مع سلطات الأمر الواقع القائمة هناك الأمر الذي يرسي سلوكاً منافٍ للأعراف القائمة بين الدول، ناهيك عن أنه مخل بكل القرارات الصادرة عن «المجتمع الدولي» والتي أكدت كلها، ومن دون وجود لأي استثناء، على وحدة التراب السوري وسيادة الحكومة السورية على كامل أراضيها، ومن كانت لديه سياسات كهذه من الطبيعي أن تنعكس حال العدائية التي ينتهجها عائقاً يقف أمام هكذا مشاريع.
أما التيار الثاني فقد ضم كلاً: من إيطاليا والنمسا والبرتغال واليونان وتشيكيا وقبرص، وهذه الدول كلها توحدت وراء موقف يقول بضرورة القيام بخطوات جديدة وجادة، تحت عنوان «التعافي المبكر» الذي عرفته تلك الدول، كنهج لازم لانتقال السوريين من الاعتماد التام على الإغاثات الإنسانية للاعتماد على الذات وهو لازم على الدرجة نفسها، لتسهيل عودة نازحيهم إلى ديارهم، واللافت هنا هو أن هذا المشروع كان قد طرح في «بروكسل 6» التي انعقدت العام 2022، حيث عارضته دولتان فقط هما: فرنسا وألمانيا أيضاً.
أقر اجتماع وزراء خارجية الدول المانحة باجتماعه آنف الذكر تخصيص 8.1 مليار دولار على شكل منح وقروض لدعم السوريين المتضررين من الحرب وفقاً للتقرير الذي نشرته وكالة «أسوشيتد برس» يوم الـ29 من أيار المنصرم.
والمبلغ الذي شهد انخفاضاً بنحو أكثر من ملياري دولار قياساً بنظيره الذي تعهد المانحون بتقديمه في أعقاب زلزال الـ6 من شباط 2023، يشير بوضوح إلى تناقص الاهتمام الأوروبي بالأزمة الســورية بالتزامــن مع التركيز على صراعات أخرى تبدو أكثر أهمية لهم كالحرب في أوكرانيا وفي غزة، ولربما يشكل ذلك مقدمة لانخفاضات أكبر بمرور الوقت، بعدما أفقدت سنوات الأزمة الأربع عشرة بريقها بشكل ملحوظ، والخشية هنا أن يؤدي توصيف «المزمنة» الذي غالباً ما يستخدم في الخطاب الأوروبي عندما يأتي هذا الأخير على ذكر الأزمة السورية، إلى خروج هذه الأخيرة من دائرة الضوء تماماً بحيث يتم التعاطي معها كـ«روتين» يمكن التعايش معه ولوقت طويل.
أعاد وزراء خارجية الدول المانحة، وفق ما ذكره تقرير الـ«أسوشيتد برس» آنف الذكر، التأكيد على ضرورة «إحياء خريطة الطريق التي تقودها الأمم المتحدة لإنهاء النزاع السوري»، كما طلبت ثمانية دول أوروبية «إعادة تقييم الأوضاع في سورية» كمدخل لا بديل منه للسماح بـ«عودة اللاجئين إلى ديارهم»، وهنا يكمن «مربط الفرس»، إذ لا يزال الخلاف متقداً حول ما هي المناطق السورية التي ينطبق عليها ذلك التوصيف، ومن المؤكد هنا أن ذلك الخلاف لن ينقض عما قريب لاعتبارات تتعلق بالمشاريع والمخططات التي تتبناها بعض تلك الدول، والتي تظل حاكمة لتقييماتها في هذا السياق.
عام جديد من التمديد للأزمة وفق ما توحي به مخرجات «بروكسل 8» والمؤكد هو أنه سيكون الأشد وطأة، من بين سني الأزمة الثلاث عشرة الماضية، على السوريين وعلى واقعهم الذي أضحى ضاغطاً بدرجة من الصعب معها التنبؤ بالمآلات التي يمكن أن يصير إليها ذلك الواقع، لكن الراجح أن المزيد من الضغط سوف يؤدي إلى مزيد من التهتكات في النسيج المجتمعي الذي لطالما أظهر صلابة لافته لربما لم يكن «الخارج» يتوقعها، لكن الرهان على استمرارها يظل محفوفاً بمخاطر عدة.
في اختبار «برينل» لقياس صلابة المعادن يجري دفع كرة ثقيلة وبسرعة معينة تجاه كتلة المعدن المراد قياس صلابته، وبعيد الاصطدام يتم قياس كل من عمق وقطر المسافة البادئة المتبقية في المعدن، الآن من الراجح أن «المعدن» السوري قد أثبت إبان خضوعه للاختبار أنه من النوع جيد الصلابة، لكن ذلك قد لا يظل صحيحاً إذا ما ازدادت كتلة الكرة وسرعتها في آن واحد.