الجالية الجزائرية المهاجرة.. ثروة ضخمة تنتظر التثمين
منذ حكومات خلت، كانت الجالية حاضرة على الورق، في كتابة دولة أو دمجها في وزارة الخارجية، لكنها تبقى مغيبة عن الفعل الميداني ما دامت السلطة لم تصل إلى الآليات الضرورية لاستقطابها وإدماجها في المجموعة الوطنية
اتخذت الحكومة الجزائرية عدة تدابير لفائدة جاليتها المهاجرة المقدرة بنحو سبعة ملايين مهاجر في مختلف أرجاء العالم، تبدأ من تخفيض أسعار النقل الجوي والبحري لفائدة العائلات، وتسهيل إجراءات الدخول والخروج باستعمال حتى بطاقات التعريف الوطنية. لكن يبقى ذلك غير كافٍ لتثمين هذه الفئة التي تعتبر أحد مصادر الدخل القومي للجزائر، لو تم استغلالها كثروة وطنية وبشكل جيد.
وتبقى مداخيل الجالية الجزائرية، على تعدادها المعتبر، من أضعف مداخيل الجاليات مقارنةً بتونس والمغرب ومصر، في ظل العراقيل البيروقراطية وغياب الحوافز. فعلى عكس حكومات المنطقة التي تستغل الفئة المهاجرة في تحقيق عائدات للخزينة العمومية، فإن الجالية الجزائرية ظلت خارج حسابات الحكومات المتعاقبة إلى غاية السنوات الأخيرة، حيث اتخذت تسهيلات بإمكانها تحقيق الربط بين هؤلاء وبين وطنهم الأم.
عائدات الجالية الجزائرية تقدر بنحو مليار دولار، بينما نظيرتها في مصر تحقق 12 مليار دولار، وهو رقم بعيد بين الجاليتين رغم أن فارق التعداد لا يتعدى حاجز المليوني مهاجر. وهذه وضعية تعكس التباين في سياسة الحكومتين تجاه مهاجريهما، رغم تعلق هؤلاء بوطنهم سواء كانوا في الجزائر أو مصر أو في أي بلد عربي آخر.
ورغم أن ثروة الجزائريين في فرنسا تقدر بنحو 40 مليار دولار، إلا أن مساهمتهم تبقى ضئيلة جدًا داخل التراب الوطني، بسبب المناخ المنفر الذي راكمه التسيير الإداري البيروقراطي طيلة العقود الماضية. وحتى التحويلات المقننة تناهز الملياري دولار فقط، والبقية تمر كلها عبر القنوات غير الرسمية ويجري تداولها في السوق الموازية.
وفيما تغيب إحصائيات حقيقية عن حجم العملة الصعبة المتداولة في أسواق البلاد، إلا أن الجالية المهاجرة تبقى تمثل أحد مصادرها الأساسية. ولعل فارق السعرين الرسمي في البنوك والموازي في الأسواق هو العامل الرئيسي لتوجه هؤلاء للذي يدفع أكثر، بينما تضيع الخزينة العمومية المليارات من العملة الصعبة لم تجد الآليات المناسبة لصبها في قنواتها.
وتولي السلطة بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون أهمية لافتة للجالية المهاجرة في الآونة الأخيرة، من أجل تعزيز الروابط الاجتماعية والاقتصادية بينها وبين الوطن الأم، من خلال الإعلان عن حزمة من التسهيلات تبدأ من مصالح السفارات والقنصليات في الخارج إلى غاية الدخول إلى أرض الوطن. لكن ذلك يبقى غير كافٍ في ظل تجذر ثقافة إدارية فاسدة.
مؤخرًا تداول مدونون على شبكات التواصل الاجتماعي تسجيلًا لنحو 300 سيارة بسائقيها وركابها قضوا ليلة بيضاء في ميناء وهران، بسبب قرار اتخذه مسؤول جمركي لحجز السيارات والأمتعة بعد شكوك راودته حول عدد منها. وهو ما أثار غضب هؤلاء واستياءهم واستغربوا كيف يتم التعامل مع كل السيارات بسبب شك أو معلومات جمركية حول بعض منها، وكان الأجدر به التعامل مع المعنيين مباشرة بدل إنزال عقوبة جماعية.
وقبلها عاش مطار الجزائر الدولي حادثة غريبة، حيث تم غلق أبوابه لعدة ساعات في وجه المسافرين الداخلين إلى أرض الوطن، بدعوى التدقيق في أمتعة تجار “الشنطة” القادمين عبر رحلتي دبي وإسطنبول، واستغرب هؤلاء القرار الذي عاقب الجميع بمن فيهم القادمون من وجهات أخرى، سواء مسافرين محليين أو مهاجرين.
وبين نوايا السلطة وخطاب السياسيين في التكفل بأفراد الجالية، وبين ممارسات الواقع، يبقى التعامل الجزائري مع جاليته دون طموحات ورغبات الخيرين. وإذا كانت الحكومة قد قررت خفض أسعار النقل وتنفيذ حملات موسمية لاستقطاب أكبر عدد من المهاجرين وإقناعهم، فإن الجالية لم تُدرج كأولوية صريحة في سياسة الحكومة، رغم أنه بإمكانها تحقيق عائدات تناهز عشرة مليارات دولار من التحويلات ومن الموسم الصيفي، بحسب بعض التقديرات، وهو ما لم يحققه أيّ قطاع في البلاد، إلا قطاع الطاقة.
وحتى الحديث عن وجود سبعة مليارات دولار من الصادرات خارج المحروقات، بدعوى فك الارتباط مع اقتصاد الريع، لم يواكبه وضع خطة عملية للاستفادة من الجالية المهاجرة وتعزيز الأواصر الاجتماعية والاقتصادية بينها وبين الوطن، وإطلاق المزيد من الحوافز التي تضعها في منزلة المساهم في بناء الدولة من وراء الحدود، مما يوسع دائرة المصادر الممولة للخزينة العمومية بالعملة الصعبة، إذا كانت نية التخلص من تبعية النفط صادقة وحقيقية.
الجالية الجزائرية المهاجرة قادرة ومستعدة للمساهمة في بناء البلاد، متى توفرت لها شروط الثقة وتأكدت من صدق النوايا، وهو ما ظهر في حملات التبرع أثناء وباء كورونا، حيث أمّنت كميات من الأدوية والمعدات والأجهزة وحتى مستشفيات ميدانية، قبل أن تتدخل الإدارة وتفرمل العمل بدعوى مركزة العمل التطوعي في هيئة الهلال الأحمر الجزائري، وتفادي الوقوع في التوظيف السياسي للمساعدات.
وقبل ذلك، كان المشرع الجزائري قد أقصى المهاجرين أو الحاملين لجنسية ثانية من تبوّؤ مناصب المسؤولية العليا، الأمر الذي اعتبر إقصاءً ممنهجًا حرمت به البلاد من كفاءات في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والمالية والسياسية، وهو أمر لا يحفز هؤلاء على التقرب أكثر من وطنهم الأم، ما دامت الوطنية تُقاس بمحرار إداري بليد.
منذ حكومات خلت، كانت الجالية حاضرة على الورق، في كتابة دولة أو دمجها في وزارة الخارجية، لكنها تبقى مغيبة عن الفعل الميداني ما دامت السلطة لم تصل إلى الآليات الضرورية لاستقطابها وإدماجها في المجموعة الوطنية. ولو أن التدابير الأخيرة والاهتمام الملحوظ شجع الجزائريين على التردد على وطنهم، بدل المرور على مطارات الدول المجاورة بسبب فوارق أسعار النقل، إلى أن فاق عددهم المليون مهاجر زاروا الجزائر في العام 2023، لكن ذلك يبقى بعيدًا عن تعداد السبعة ملايين المنتشرين في ربوع العالم، وعما بإمكان هؤلاء تحقيقه لوطنهم.