في موضوع النازحين السوريّين، لا يختلف وضع الأردن عن وضع لبنان. تقريباً، يتوازى عدد “الضيوف”، بحيث يفوق في كل من الدولتين المجاورتين لسوريا المليون والثلاثمئة ألف نسمة.
لكنّ الأردن الذي يئن تحت ثقل هذا الملف يدير الأمور بطريقة مختلفة، فهو لا يعلن الحرب على المجتمع الدولي عموماً وعلى الأصدقاء في العالم خصوصاً، بل يطالبهم بمزيد من الالتزام بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، في توفير ما يحتاج إليه ليتمكن من الاستمرار في تأمين الحد الأدنى من الشروط الإنسانية لهذه الاستضافة الموقتة – ولو طالت – اقتناعاً من القيادة في عمّان بأنّها لن تجنّس هؤلاء في أي حال من الحالات، وتعرف، بالإحصاءات العلمية، أنّ “الضيوف” راغبون في المغادرة.
وما يصح على الأردن، لهذه الجهة، يصح على لبنان أيضاً، فلبنان ليس دولة تمنح جنسيتها للاجئين، ولا حقوق العمل في المجالات المحصورة باللبنانيين، والنازحون السوريون فيه يطمحون إلى أن يغادروه، عاجلاً وليس آجلاً، إن لم يكن إلى بلدهم فإلى أي دولة يمكنهم أن يندمجوا فيها، ولذلك تجد الدراسات أنّ غالبية راكبي قوارب الموت، سواء انطلقت من الشواطئ اللبنانية أو الليبية أو غيرها، هم من اللاجئين السوريين في لبنان.
ولكنّ لبنان، بدل أن يتفاهم مع الدول الصديقة على الوقوف معه في هذه المحنة، يذهب إلى تحدّيها، وبدل أن يطالب برفع المبالغ التي ترصد لهم يتعاطى مع المبالغ التي يتم توفيرها على قاعدة الرشوة، وكأنّ الاتحاد الأوروبي يتآمر على لبنان، بحيث يعمل على تهجير شعبه في مقابل توطين السوريين فيه، وهو كاد في مخاطبته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يتماثل مع إسرائيل في كلامها ضد “الأونروا”.
وفي ذلك تكرار للأدبيات نفسها التي طالما استعملت بحق اللاجئين الفلسطينيين الذين، على الرغم من الحروب والمرجلات والقوانين “التحريمية” لا يزالون في لبنان، ولم يعودوا إلى ديارهم، مع أن موضوعهم أكثر تعقيداً من موضوع السوريين، كما لم تستقبلهم دول ثالثة، إذ إنّ الأنظمة التي تستقطب المهاجرين وتمنحهم الإقامة وحق العمل ولاحقاً الجنسية، لها شروط لم يسمح لبنان لغالبية الفلسطينيين الذين يعيشون فيه بتوافرها فيهم!
لقد تعاطى لبنان مع موضوع النازحين السوريين بطريقة خاطئة، منذ البداية، فهو لم يستقبلهم إنسانياً، بل سياسياً. معارضو النظام السوري في لبنان احتضنوا البيئة المعادية لقيادة بشار الأسد، والبيئة الموالية لهذا النظام دخلت إلى سوريا بقيادة “حزب الله” وتحت إمرة “الحرس الثوري الإيراني”، الأمر الذي رفع مستوى مأساة النزوح إلى حدّها الأقصى، بحيث دفعت هذه التنظيمات بالبيئات المعارضة التي تمّت السيطرة عسكرياً على مناطقها، إلى النزوح في اتجاه لبنان، من دون أيّ ضوابط، على قاعدة ترييح الميدان من عبء ضبط المعارضات الشعبية، وفتحت، في الوقت نفسه، الباب واسعاً أمام مؤيّدي النظام بالتوجه إلى لبنان، من أجل خلق حالة من التوازن بين النازحين، بحيث يتحوّلون إلى “جواسيس أمنيّين” عليهم.
وأمام هذه المشهديّة، وبدل أن ينضبط الجميع في لبنان تحت عناوين “إعلان بعبدا” الذي كان هدفه الجوهري تحييد لبنان عن صراع المحاور وحروب المنطقة، تفلّت الجميع من التزاماتهم وتعاطوا مع الموضوع السوري، كما لو كان “محسوماً”: معارضو النظام كانوا يجزمون بأنّه ساقط عاجلاً، أمّا داعموه فكانوا يعتبرونه منتصراً حكماً.
ولم يتحقق التوقعان، فالنظام لم يخسر كما كان مشتهى معارضيه، ولكنّه لم يربح وفق ما كان يطمح إليه هو وجميع داعميه. سيطرته على “سوريا المفيدة” قوامها قوى خارجية، وجميعها من بيئات طائفية على تناقض مع غالبية البيئات السورية، فالجيش الروسي الذي يسيطر على الجو، يترك الميدان لإيران والتنظيمات الموالية لها، وهي في غالبيّتها شيعية ومتعصبة طائفياً وتتبع مذهباً متشدداً وراديكالياً.
ولهذا السبب هناك قناعة في العالم بأنّ النظام السوري وداعميه يعملون ما بوسعهم من أجل عرقلة عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، لأنّ من شأن ذلك أن يخلق اضطرابات كبيرة بين البيئات الشعبية من جهة، والقوى المهيمنة عسكرياً من جهة أخرى، الأمر الذي تبدو تجلياته واضحة في السويداء الدرزية وفي درعا السنية.
إنّ الأردن، بلسان وزير خارجيته أيمن الصفدي، يعتبر أن الحل ليس في إهانة كرامة اللاجئين، بل في الضغط من أجل الوصول إلى حلول سياسية للأزمة السورية تقوم على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 والمرجعيات الدولية المعتمدة، الأمر الذي من شأنه أن يضمن العودة الطوعية للاجئين السوريين.
مشكلة لبنان تكمن – ولهذا ستبقى مساعيه عقيمة – في أنّه يتجاهل وجوب التوصل إلى حل سياسي في سوريا، وأن عليه أن ينسحب من كونه جزءاً من المشكلة، إذ إن مكوّناً حكومياً وازناً، وهو “حزب الله”، يخوض الحرب إلى جانب النظام السوري، ويشكل مع حلفائه المنضوين تحت القيادة الإيرانية، أبرز مشكلة أمام أي عودة طوعية للاجئين السوريين.
لقد أظهرت فاعليات “مؤتمر بروكسل الثامن حول دعم مستقبل سوريا والمنطقة”، وما واكبها من قرارات من الاتحاد الأوروبي بحيث جرى تمديد العقوبات على النظام السوري، لمدة سنة جديدة، أنّ المسعى لحل هذه المشكلة الكبيرة، وفق الرؤية اللبنانية، مستحيل.
إنّ الحل الممكن يبدأ بأن يخرج لبنان الرسمي من استرضاء “حزب الله” والنظام السوري، بتجاهل واجب الضغط لإيجاد حل سياسي وفق ما ترتئيه المرجعيات الأممية، وأن تتخلّى القوى السياسية عن محاولة كسب الشعبية على حساب هذه المأساة الإنسانية، وأن تعمد الدولة اللبنانية إلى تنفيذ قوانينها التي يستحيل أن تبدأ إلّا بفرضها، أوّلاً، على من ليسوا لاجئين ولا نازحين، وفي طليعتهم هؤلاء الموالون للنظام السوري!