كابوس هجرة الكفاءات والمقاربة التونسية المفقودة
صعوبة الاندماج في القطاعين العام والخاص، التي تعكسها نسبة البطالة المرتفعة والبالغة 16.2 في المئة، يعطي تأكيدا على أن الدولة غير قادرة على تلبية توقعات الخريجين ذوي المؤهلات العالية
بواعث القلق من تداعيات نزيف هجرة الكفاءات التونسية، تتحمل الدولة فيه جزءا كبيرا، كون مقاربتها لم تعد ذات جدوى. لا يمكن إغفال أن تأثيرات فوضى “الربيع العربي”، ثم صدمتي الوباء، والحرب في أوكرانيا، كان وقعها مجتمعة، قاسيا على الاقتصاد. لا نتحدث عن التكاليف فقط، بل أيضا خسارة محرك رئيسي في التنمية، ألا وهو سوق العمل.
قضية الهجرة لا تقل أهمية عن ملفات أخرى سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو رياضية، إلى ما إلى ذلك. وعند النظر إلى النزيف المسجل في الكفاءات نتأكد أن تأثير التفاعلات الداخلية والمبادرات المقترحة لم تخرج من متلازمة الحل المفقود.
قرابة 40 ألف مهندس من بين 90 ألفا مسجلين في عمادة المهندسين غادروا البلاد بين عامي 2015 إلى 2020، أي بمعدل 20 مهندسا يوميا، تصريح لعميد المهندسين، كمال سحنون، قبل أيام، أثار صدمة بشأن تنامي ظاهرة هجرة الأدمغة في نهاية دورة تعليم تكاد تكون مجانية، وتحتكر استثمارا هائلا من الدولة، ومعه تثار طرق معالجة المشكلة بعيدا عن الحلول السهلة المقترحة من البعض وتتعارض مع مبدأ حرية التنقل.
المهندسون الهاربون بحثا عن فرص أفضل، ليسوا وحدهم من يجعل التوظيف في تونس عموما يعاني، بل إن كوادر الرعاية الصحية، والمختصون في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، يشكلون شريحة كبيرة أيضا. فبيانات وكالة التعاون الفني، تعكس ذلك بوضوح، إذ أن نسبة التحاقهم بالعمل في الخارج ارتفعت خلال العام الماضي، بواقع 28 في المئة، بمقارنة سنوية، لتصل إلى 4510 طلبات.
هذه الأرقام، وإن كانت مهمة لقياس حالة ما فتئت تتفاقم نتيجة خطط تقليدية مغلفة بقلة الإغراءات ولا توفر الإمكانيات المادية والحوافز والمكافآت، التي تتناسب مع قدرات العقول التونسية، لكنها كذلك تشير إلى أن تفكيك الأسباب الجوهرية، وتشخيص العلل والنظر بعمق إلى مشكلة وضعت البلد في المرتبة الثانية عربيا من حيث هجرة الكفاءات بعد سوريا، لا بد أن تعالج بمنطق السياقات الراهنة.
يمكن تفسير هذا التدفق لهجرة الأدمغة نحو دول أوروبا أو كندا أو الولايات المتحدة بعدة عوامل، لعل من أبرزها سوء إدارة البلاد. ولا توجد تنمية كافية تقلص الفجوات بين الطبقات الاجتماعية، وأيضا الآفاق الوظيفية ضبابية، ولا تتيح فرصا مثيرة للاهتمام. كما أن تكافؤ الفرص يكاد يكون مفقودا. وبينما ينزلق خريجو الجامعات إلى البطالة، يحصل المغتربون بسهولة على وظيفة في دول المهجر.
صعوبة الاندماج في القطاعين العام والخاص، التي تعكسها نسبة البطالة المرتفعة والبالغة 16.2 في المئة، يعطي تأكيدا على أن الدولة غير قادرة على تلبية توقعات الخريجين ذوي المؤهلات العالية. ويرجع ذلك إلى ضعف التوافق بين سياسة التعليم الجامعي وسياسة التوظيف رغم محاولات إحلال التوازن بينهما. وما يزيد من كآبة الوضع ضعف نظام الأعمال، الذي لا يهتم بالأبحاث لتطوير أنشطته.
الواقع الاجتماعي والثقافي، حتى إن أخذ زمام المبادرة ليس من الصفات، التي يتم الترويج لها في الشركات ومجتمع الأعمال، وفي أماكن العمل التونسية، ولكن هذه الجودة مطلوبة بشدة في الخارج. وعلى سبيل المثال، جعلت البطاقة الزرقاء، التي تم إطلاقها في عام 2007 من انتقال المهارات من البلاد إلى أوروبا باستثناء بريطانيا وأيرلندا والدنمارك، أمرا أكثر سهولة.
كل هذا شجع الكفاءات، مثل المهندسين والأطباء وجيل التكنولوجيا، بمن فيهم الجيل “زد”، على الهروب إلى بلد يستفيدون فيه من ظروف مالية أفضل، حيث يفتقر الخريجون في تونس إلى التحفيز الملائم وحسن النية للمشاركة في إصلاح المؤسسات، خاصة وأن الكثير منهم يجدون صعوبة في العثور على عمل.
لو سلمنا بأن هذا الأمر يمكن تداركه، فإن ما تتمتع به الكفاءات من مهارات محط اهتمام دول يعوزها نقص في اليد العاملة، تجعل هذه الفئة تضع التنمية في تونس ضمن آخر اهتماماتها كونها غير مقتنعة أساسا ببرامج وخطط ومبادرات التنمية، كما أن العوامل التنظيمية والإدارية وضعف الاقتصاد تمنعهم من المشاركة في سوق العمل، وتطورت معه في العموم عدم الاعتراف بالقيمة المضافة للشخص.
مع زيادة التنقل وسهولة السفر في ظل العولمة، لا يمكن عمليا فرض قيود على هجرة الكفاءات، بالطرق التي اقترحها المركز التونسي للدراسات الإستراتيجية في دراسة نشرها هذا الشهر عبر تعويضات للدولة في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب باتفاق مع بلد المقصد، مع اشتراط الحد الأدنى لعدد سنوات العمل في بلد المنشأ، والتزام الخدمة المدنية بالمناطق ذات الأولوية.
من الطبيعي، كما هو الحال في أي بلد عربي يعاني من أزمات مركبة، أن يتصاعد حماس الشباب في تونس وتتسع خارطة طموحاتهم وترتفع سقوفها لديهم لمكافأة أنفسهم بمستوى معيشي أفضل في المهجر بعد سنوات قضوها في الدراسة الجامعية ببلدهم، لكن بمجرد بدء المسؤولين في استثمار الاعتراف بالفشل في إدارة هذا الملف، قد يسهم في تطويق ظاهرة قبل أن تخرج عن السيطرة في يوم ما.
بإمكان تونس بإطارها العام السياسي والاقتصادي والخدمي لو اهتمت أكثر بالأمر بعيدا عن السجال العقيم في الندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام، أن تنهض بمهمة معالجة الظاهرة للحد من هجرة العقول والخبرات، لأن المكاسب لا يمكن الحفاظ عليها بالتقاعس.